Tuesday, 28 September 2010

الوجه الآخر لـ«القاعدة» (4 من 6)

الوجه الآخر لـ«القاعدة» (4 من 6) ... «القاعدة في أرض الكنانة» مشروع فشل قبل أن يبدأ ... ونهر البارد قضى على فرع «بلاد الشام»
الثلاثاء, 28 سبتمبر 2010
لندن - كميل الطويل
شكّل الغزو الأميركي العراقَ عام 2003 ولمعان نجم «أبي مصعب الزرقاوي» بصفته قائداً لـ «المقاومة» هناك متنفساً لأسامة بن لادن وقادة تنظيمه المحاصرين في مناطق القبائل الباكستانية وبعض المناطق داخل أفغانستان نفسها. فقد كان هؤلاء يواجهون حرباً لا هوادة فيها منذ انهيار حكومة «طالبان» في أفغانستان واضطرار «القاعدة» إلى الفرار من تورا بورا في أواخر عام 2001. لكن تحويل الأميركيين أنظارهم إلى العراق وغرقهم في ما بدا «مستنقعاً» يستنزف قواهم هناك، سمح لـ «قيادة القاعدة» بأن تستخدم أسلوباً جديداً يحاكي تجربتها مع الزرقاوي في العراق. فكما نجحت «القاعدة» في استيعاب تنظيم الزرقاوي – جماعة التوحيد والجهاد – الذي ليس لها أي فضل في تأسيسه أصلاً، فإنها سعت أيضاً إلى القيام بالأمر ذاته في مناطق أخرى في العالم. وهكذا انطلقت مشاريع «فروع القاعدة» من المغرب العربي إلى مشرقه، مروراً بالخليج العربي وأرض الكنانة وانتهاء بالقرن الأفريقي.
«جزيرة العرب»
كان «تنظيم القاعدة في بلاد الحرمين» أول فروع التنظيم التي يتم إنشاؤها بعد «نكسة تورا بورا» في نهاية 2001. وقد تزامن ظهور هذا الفرع إلى العلن في عام 2003 مع بدء الزرقاوي عملياته الضخمة في العراق، على رغم أن الإسلامي الأردني لم يكن قد التحق بعد رسمياً بعباءة «القاعدة» وكان ما زال يعمل على رأس جماعته المستقلة منذ أيام أفغانستان («جماعة التوحيد والجهاد»). ولكن في حين كان الزرقاوي يسير بخطوات سريعة نحو إثبات نفسه قوة لا يُستهان بها في «بلاد الرافدين» من خلال تحويلها مستنقعاً دموياً للأميركيين والقوات الأجنبية، حتى من قبل أن يبايع أسامة بن لادن في أواخر عام 2004، فإن فرع «القاعدة» في السعودية لم يتمكن من تحقيق نجاح مماثل. إذ ما كادت «قاعدة بلاد الحرمين» تبدأ ضرباتها في السعودية في أيار (مايو) 2003 حتى كانت أجهزة الأمن تُطبق على خلاياها وتفككها الواحدة تلو الأخرى وتقتل أو تعتقل كل أمير يتوالى على قيادتها بدءاً بيوسف العييري وانتهاء بصالح العوفي.
وعلى رغم أن هذا الفرع نفّذ لدى بدء نشاطه سلسلة واسعة من عمليات التفجير الدموية، تمثّلت خصوصاً في مهاجمة مجمّعات سكن المقيمين الأجانب في الرياض، إلا أن أجهزة الأمن السعودية سرعان ما استعادت المبادرة وقضت في شكل شبه كامل - خلال سنتين فقط - على أي نشاط لعناصر التنظيم داخل المملكة. ونتيجة لذلك، اضطرت «القاعدة» إلى وقف عملياتها والانتقال إلى اليمن المجاور عسى أن تتمكن هناك من التقاط أنفاسها. ويؤكد الإسلامي الليبي نعمان بن عثمان، في هذا الإطار، أن «القاعدة» أوقفت نشاطها في السعودية بناء على أمر من بن لادن. ويقول: «أمر بن لادن شخصياً بأن تتوقف القاعدة عن القتال في المملكة، بعدما رأى أن تنظيمه هُزم عسكرياً وبعدما رأى أن عملياته أثارت عدم رضى من الشعب السعودي ومن العلماء».
بعد هزيمة خلايا «القاعدة» في السعودية انتقل الناجون من أفرادها إلى اليمن وبقوا هناك حتى كانون الثاني (يناير) 2009 حين أعلنوا الاندماج مع فرع «القاعدة» اليمني بقيادة ناصر الوحيشي الذي كان قد تمكّن من الفرار من سجن صنعاء في شباط (فبراير) 2006. وهكذا نشأ «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» ليضم الجناحين السعودي واليمني. لكن نشاط هذا التنظيم الحديث النشأة بقي محصوراً إلى حد كبير داخل اليمن نفسه، مستغلاً على ما يبدو المشاكل الكثيرة التي تعانيها حكومة هذا البلد من حرب مع الحوثيين في الشمال وتمرد انفصالي في الجنوب، وتُضاف إليهما مشاكل الفساد والبطالة والفقر وشح آبار النفط ونضوب مصادر المياه. ومع كتابة هذا التقرير، كان فرع «القاعدة» الخليجي ما زال منحصراً أساساً في اليمن، مع محاولات متكررة يقوم بها من حين إلى آخر لإثارة اضطرابات في المملكة، بما في ذلك محاولة اغتيال مسؤولين حكوميين.
«القاعدة في أرض الكنانة»
وفي الوقت الذي كانت «القاعدة» تُطلق فرعها في «بلاد الحرمين» عام 2003 – والذي سرعان ما انهار في السعودية – ثم فرعها في «بلاد الرافدين» بعد انضمام الزرقاوي عام 2004، كانت محاولات أخرى تُبذل لإطلاق مشاريع مماثلة في مناطق أخرى حول العالم. وكان طبيعياً أن تكون مصر، «أرض الكنانة»، واحدة من الدول التي سعت «القاعدة» إلى مد نشاطها إليها. لكنها هنا أيضاً لم توفّق في مسعاها.
رست مهمة مد نشاط «القاعدة» إلى مصر على القيادي من جيل الوسط في «الجماعة الإسلامية» محمد خليل الحكايمة. وهو كان عنصراً ناشطاً في الجماعة في صعيد مصر، لكنه لم يكن من قياداتها البارزة. فقد كان يعمل بعيداً من الأضواء في إطار نشاطات قادة هذه الجماعة في المنفى. في البدء، كان مرتبطاً، على ما يقال، بطلعت فؤاد قاسم (أبو طلال) القيادي الكبير في الجماعة المقيم في الدنمارك والذي خُطف في كرواتيا خلال توجّهه إلى البوسنة عام 1995 ولم يُعثر له على أثر. بعد سنتين من اختفاء قاسم، تعرّضت «الجماعة الإسلامية» لانشقاق خطير عندما أطلق قادتها في السجون المصرية مبادرة لوقف العنف عام 1997، وهو أمر رفضه عدد من قيادات الخارج تزعّمهم رفاعي طه. كان الأخير من قيادات الجماعة المتمسكين بمواصلة العمليات المسلحة في مصر، وهو أثار حنق قادة جماعته المسجونين عندما بادر في تشرين الثاني (نوفمبر) 1997 إلى تبنّي «مذبحة الأقصر» التي نفّذها ستة من عناصر الجماعة – على رغم «المبادرة السلمية» التي أُطلقت قبل ذلك بشهور – والتي أوقعت عشرات القتلى من السيّاح الأجانب، إضافة إلى رجال أمن مصريين. وأثار رفاعي مرة ثانية حنق جماعته عندما وقّع باسمها بيان إطلاق «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين» في أفغانستان في شباط 1998، وهو تصرّف أرغمته جماعته على إصدار توضيح في شأنه يؤكد فيه أنه وقّع البيان الذي أصدره أسامة بن لادن والدكتور أيمن الظواهري (مع قادة جماعات إسلامية أخرى) باسمه الشخصي وليس باسم «الجماعة الإسلامية» المصرية.
لم يكن الحكايمة حتى ذلك التاريخ من القيادات البارزة في «الجماعة»، لكنه كان محسوباً على خط رفاعي طه الذي اضطر في نهاية المطاف إلى تقديم استقالته من رئاسة «مجلس شورى» الجماعة في المنفى لمصلحة رفيقه مصطفى حمزة الذي وافق على السير في السياسة السلمية لقيادة الداخل. ومع تراجع نفوذ رفاعي في «الجماعة»، قرر الحكايمة طلب اللجوء السياسي في الغرب، كما فعل كثيرون غيره من قيادات الجماعات الإسلامية العربية. وقع اختياره على بريطانيا التي جاء إليها في عام 1999، لكنه لم يبق فيها طويلاً. «بقي هنا حتى عام 2001»، كما يقول نعمان بن عثمان، و «غادر بمحض إرادته. فقد شعر بأنه لا يمكنه البقاء هنا في بلاد الكفار، بل يجب أن يخرج ليقيم في أفغانستان كونه يرى أن حكومة «طالبان» تحكم بالشريعة الإسلامية. لكنني أعتقد أنه استُقطب. تم التأثير فيه كي ينتقل إلى مكان يكون فيه قريباً من رفاعي طه. لم يكن مرتاحاً منذ البداية إلى مشروع «المبادرة السلمية» وكان أقرب إلى رفاعي في هذا الشأن».
ظل الحكايمة في الظل حتى عام 2006. فجأة ظهر إلى السطح في مكان غير محدد وبدأ يُجري اتصالات برفاقه القدامى. أحدهم كان الدكتور هاني السباعي وهو أحد القيادات «الجهادية» المصرية في بريطانيا ومعروف بمواقفه المؤيدة لما يعتبره «جهاداً» يحصل في كثير من دول العالم، وعلى رأسها أفغانستان والعراق.
اتصل الحكايمة، بلا شك، بكثيرين غيره في تلك الفترة. فقد كان يريد إعادة فتح قنوات اتصال، خصوصاً مع الإسلاميين المصريين الذين يمكن أن تكون لهم خطوط اتصالات ومعارف – من أصدقاء أو أقرباء - في بلدهم على وجه الخصوص. لم يكن جميع من اتصل بهم يعرف مقصده بالطبع ولا المهمة التي كانت موكلة إليه. لكن لم تمر فترة طويلة حتى اتضحت أهدافه. ففي أيار (مايو) 2006 أعلن الدكتور أيمن الظواهري في شريط فيديو أن جناحاً في «الجماعة الإسلامية» المصرية قد انضم إلى «القاعدة». كان الظواهري حريصاً على التوضيح أن الذين انضموا يمثّلون فقط «جناحاً» في الجماعة التي كانت قيادتها في مصر متمسكة بالمبادرة السلمية وأصدرت لها تأصيلات شرعية دانت فيها بشدة أفكار «القاعدة» وممارساتها. قال الظواهري في شريطه: «نبشّر الأمة الإسلامية بأن جناحاً كبيراً من فرسان الجماعة الإسلامية... توحّد مع تنظيم القاعدة». وظهر الحكايمة في الشريط يقرأ بيان الانضمام في ظل أشجار النخيل، ما أعطى الانطباع أنه في مناطق القبائل الباكستانية أو في أفغانستان نفسها. والأرجح أنه كان في وزيرستان حيث يمكنه من هناك إجراء اتصالات مع العالم الخارجي ويكون قريباً في الوقت عينه من قيادات «القاعدة» الذين بات الآن واحداً منهم.
ويكشف نعمان بن عثمان أن الحكايمة تولى عند التحاقه بـ «القاعدة» مسؤولية اللجنة الأمنية، لكن جهده الأكبر كان منصبّاً على «إحياء الحالة الجهادية» في مصر وليس تنفيذ عمليات مسلحة (شهدت مصر بين عامي 2004 و2006 ثلاث هجمات ضخمة استهدفت مواقع سياحية في شرم الشيخ وطابا ودهب، لكن تنظيم القاعدة لم يعلن مسؤوليته رسمياً عن أي منها، بل صدرت بيانات زعمت مسؤولية جماعة تُطلق على نفسها اسم «كتائب عبدالله عزام»). ويقول: «عندما التحق الحكايمة بالتنظيم كانت المسؤولية الأولى التي تولاها هي تعيينه مسؤول اللجنة الأمنية في القاعدة».
كانت «القاعدة» قد «خسرت» المسؤول الأصلي عن هذه اللجنة «أبو محمد الزيات» – أحد قيادات «جماعة الجهاد» المصرية – في أعقاب هجمات 11 سبتمبر. فقد كان الزيات معارضاً في شدة لتنفيذ مثل هذا الهجوم، إذ اعتبره يمثّل «معصية» كونه يُنفّذ من دون أخذ إذن الملا عمر. تسبب موقف الزيات، وهو من جيل الرعيل الأول في «الجهاد» وكان ناشطاً في أوساط «الجهاديين العرب» مع بن لادن والظواهري في السودان في منتصف التسعينات، في فتور علاقته بزعيم «القاعدة». انتقل الزيات إلى إيران، مع مئات غيره من «النازحين» من أفغانستان في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، وقد «علق» هناك مثل كثيرين من قيادات «القاعدة» الذين وضعتهم السلطات الإيرانية إما في السجون أو في إقامات رسمية تُشرف عليها أجهزة الأمن.
وفي إطار مسؤولياته في اللجنة الأمنية في «القاعدة»، تولى الحكايمة خصوصاً مهمة إعادة «إحياء الحالة الجهادية» في مصر. فأنشأ نواة لتنظيم جديد باسم «القاعدة في أرض الكنانة» وبدأ ينشط عبر موقع على شبكة الإنترنت باسم «الثابتون على العهد» (في «الجماعة الإسلامية») بهدف استقطاب عناصر جديدة، وتحديداً من أبناء «التيار الجهادي». لكن تحرّكه لم يلقَ النجاح السريع الذي ربما كان يأمل بتحقيقه. فـ «الساحة الجهادية» المصرية في عامي 2006 و2007 لم تكن هي الحالة نفسها التي كانت سائدة في تسعينات القرن الماضي عندما كانت «الجماعة الإسلامية» و "جماعة الجهاد» قادرتين على شن هجمات باستمرار على الأراضي المصرية.
سعى الحكايمة في البدء إلى التعامل في شكل هادئ مع «مراجعات» رفاقه «الجهاديين» المصريين. وقد رد على هذه المراجعات والدراسات من خلال مواقف نشرها على موقعه على شبكة الانترنت – «الثابتون على العهد» – وبدا فيها حريصاً على أن يؤثر في عناصر جماعته السابقة – «الجماعة الإسلامية» – كي يعودوا إلى مسارهم القديم ويتمسكوا بخطهم السابق الذي يعتبر الحكم المصري مرتداً.
ويقول بن عثمان: «سعى الحكايمة إلى إحياء التنظيم الجهادي في مصر من طريق «القاعدة في أرض الكنانة». بدأ اتصالات، بعضها من خلال استخدام الانترنت، محاولاً أن يعيد الاتصال خصوصاً بالأعضاء القدامى في الجماعة الاسلامية الذين خرجوا من السجون نتيجة المبادرة السلمية أو من خلال الاتصال بناشطين قدامى لم يتم كشفهم. كان يحاول جمعهم في إطار تحرّك لإطلاق مشروع «القاعدة في أرض الكنانة»، ولكن ليس من خلال الطريقة التنظيمية السابقة والقائمة على نظام الشبكات. كان يريد أولاً أن يشتغل على الصعيد التعبوي. هذا شغله الأول. فقد كان يركّز دائماً على ضرورة أن «تعودوا إلى الطريق الأول» وأن «تعودوا إلى عهدكم»، وعلى ضرورة أن «تنظّموا أنفسكم وتقوموا ببناء الخلايا» قبل التفكير في القيام بأعمال مسلحة. وهذه الطريقة في العمل تنم عن ذكاء. في المرحلة الأولى لا بد من إعادة بناء التنظيم. كان يريد إيجاد الحالة قبل البدء في العمل. وهو كونه من أعضاء الجماعة الإسلامية بدأ يعطي النصائح ويصدر توجيهات... لكن المشروع فشل لأن القائمين عليه كانوا بعيدين عما يحصل على الأرض في الساحة المصرية. معلوماتهم كانت قديمة جداً. كما أن وضع الحالة الجهادية في مصر كان قد تغيّر جوهرياً وتحديداً منذ أن خرجت الجماعة الإسلامية من الصراع».
وقد تعرّضت جهود بناء «القاعدة في أرض الكنانة» إلى نكسة شديدة في آب (أغسطس) 2008، عندما قُتل الحكايمة في غارة أميركية بطائرة بلا طيّار في مناطق القبائل الباكستانية. لم تُعلن «القاعدة» رسمياً مقتله بُعيد حصوله، لكنها أقرت به بعد فترة طويلة (في 2010) من دون أن تعلن تنصيب أمير جديد لفرعها في «أرض الكنانة» ولا اسم المسؤول الذي انتقلت إليه مسؤولية «اللجنة الأمنية» بعد رحيل الحكايمة. وهي قد تكون فعلاً أجرت مثل هذه التعيينات لكن ذلك لم يُعلن بعد في شكل رسمي.
«بلاد الشام»
وكما فشلت «القاعدة» في إقامة فرع لها في «أرض الكنانة» فإنها مُنيت بفشل مماثل في «بلاد الشام» بعدما فككت السلطات اللبنانية والسورية خلايا هذا التنظيم في شكل شبه كامل. ولعل الفارق الأساسي في هاتين التجربتين يكمن في أن «القاعدة» كان عليها أن تبدأ من الصفر في بناء تنظيم لها في مصر المحكومة بقبضة أمنية حديدية منذ أحداث التسعينات مع «الجماعة الإسلامية» و «جماعة الجهاد»، في حين أنها «ورثت» تنظيماً كان ناشطاً أصلاً في الساحتين اللبنانية والسورية (بلاد الشام) وهما ساحتان كانتا بلا شك أكثر انفتاحاً بكثير من الساحة المصرية إزاء «الجهاديين».
ولا شك في أن أحداث العراق كانت مبرراً بالنسبة إلى كثيرين في المشرق العربي كي يغضّوا الطرف عن «الجهاديين» الذين يرغبون في الذهاب لقتال الأميركيين في العراق، وغالباً عبر الأراضي السورية. قيل الكثير عن غض دمشق الطرف عن هؤلاء، خصوصاً عندما بدأ بعض أركان إدارة الرئيس جورج بوش يلمح إلى ضرورة «إكمال المهمة» بقلب نظام الرئيس بشار الأسد بعد قلب نظام الرئيس صدام حسين. وفي لبنان، كانت هناك أيضاً مناطق عدة معروفة بأنها تقع خارج سلطة الدولة اللبنانية، وتحديداً في المخيمات الفلسطينية المنتشرة في الجنوب والشمال وضواحي العاصمة بيروت. وقد شكّلت هذه المخيمات فرصة ذهبية لمن يريد أن يتحرك فيها بعيداً من أعين الأجهزة اللبنانية.
كان أبو مصعب الزرقاوي أول من تنبّه إلى إمكان استغلال الساحتين اللبنانية والسورية لمصلحته، وذلك منذ فترة ما قبل غزو العراق عام 2003. فمنذ أيام أفغانستان كان الزرقاوي يعمل وفق مشروعه الخاص في «بلاد الشام» بعدما فشلت جهود أسامة بن لادن لضمه إلى «القاعدة» في أواخر التسعينات. وكما يقول الليبي نعمان بن عثمان، فقد كان الخلاف بين الرجلين يتركز أساساً على موضوع التكفير، إذ طلب الزرقاوي من بن لادن أن يُكفّر رسمياً إحدى الحكومات العربية، لكن زعيم «القاعدة» رفض ذلك. وعلى هذا الأساس، قرر الزرقاوي أن يقوم بمشروعه «الجهادي» الخاص في بلاد الشام، بما في ذلك الأردن.
كان لدى الزرقاوي في معسكره في هرات شاب لبناني يدعى حسن نبعة ولا يعرفه رفاقه سوى بـ «أبي مسلم»، وهي كنية من بين كنى عدة يحملها هذا الشاب الذي جاء إلى أفغانستان في عام 2000 بعد أحداث الضنّية (شمال لبنان) بين جماعة إسلامية مسلحة وبين الجيش اللبناني. وبعد فترة من التدرب في معسكر خلدن ثم في معسكر هرات، بايع اللبناني الزرقاوي أميراً عليه في إطار «جماعة التوحيد والجهاد». عاد «أبو مسلم» إلى لبنان بعد ذلك لكنه ظل بعيداً من الأنظار حتى ما بعد الحرب الأميركية «ضد الإرهاب» وإطاحة نظام «طالبان» في 2001. في تلك الفترة، كان الزرقاوي قد نجح في مغادرة هرات ودخل إلى إيران حيث بدأ التحضير لخطوته المقبلة وهي الانتقال إلى العراق. أرسل الإسلامي الأردني من إيران رجلاً سعودياً من القصيم (ف. أ.) كان قد تدرّب في معسكره في هرات وبايعه. جاء السعودي إلى لبنان بهدف فتح قنوات اتصال مع جماعة فلسطينية «جهادية» ناشطة في مخيم عين الحلوة للاجئين في جنوب لبنان وإقناعها بالانضمام إلى «جماعة التوحيد والجهاد». لكنه لم ينجح في مهمته على ما يبدو، إذ بقيت الجماعة الفلسطينية تعمل في شكل مستقل.
غير أن الأحداث كانت تتسارع آنذاك في المنطقة في ظل مؤشرات إلى نية الأميركيين غزو العراق. فبدأ المتطوعون «الجهاديون» يتدفقون على «بلاد الرافدين» من دون أن يكونوا ينضوون إلى جماعة معينة بل كانوا خليطاً من الجماعات. كانت جماعة الزرقاوي (التوحيد والجهاد) واحدة من تلك الجماعات، وسرعان ما انخرطت في المعارك ضد الأميركيين. وكانت تلك المعارك فرصة كي يلتحق «أبو مسلم» اللبناني بأميره الزرقاوي في العراق، حيث خاض إلى جانبه معارك شديدة أبرزها معركة الفلوجة الأولى (نيسان/ابريل 2004).
كان دور اللبناني في هذه المعركة مناسبة لبروز نجمه في شكل سريع. إذ سرعان ما كلّفه الزرقاوي بالانتقال إلى سورية وتولي إمارة «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» والإشراف بالتالي على شبكات إرسال المتطوعين إلى «بلاد الرافدين». كما عيّن الزرقاوي نائباً سورياً للأمير اللبناني هو سليمان درويش (أبو الغادية). افتتح الأمير «أبو مسلم»، أو كما بات يعرفه الذين يبايعونه في سورية باسم «الشيخ راشد»، مضافات مختلفة لاستيعاب المتطوعين «الجهاديين» كان أبرزها ثلاث مضافات في حمص وحلب ودمشق، إضافة إلى شبكة مضافات مختلفة في لبنان، أُخفي بعضها في مناطق ذات غالبية مسيحية لإبعاد الشبهات عنها (إحداها في منطقة عين الرمانة). وكان معظم التمويل الذي يأتي لفرع «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» يشرف على تأمينه السعودي «ف. أ.» الذي كان يتنقل عبر أكثر من دولة في الشرق الأوسط من دون أن يثير شكوك أجهزة الأمن. وكاد هذا السعودي أن ينكشف في إحدى المرات عندما كان في سيارة تقل أربعة من «الجهاديين» في مدينة حلب حين انفجرت فيهم عبوة ناسفة كانوا ينقلونها، فقُتل اثنان من ركابها (أحدهما تركي) وأصيب الآخران. ولكن في حين قبضت الأجهزة السورية على أحد الجريحين، تمكن السعودي من الوصول إلى إحدى المضافات في المدينة حيث عولج وعاود نشاطه.
وشهدت «إمارة» حسن نبعة لفرع «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» في أواخر عام 2004 انشقاقاً قاده أحد القادة المحليين ويدعى «أبو أنس» الذي صار يطلب من مناصريه أن يبايعونه هو وليس اللبناني. وقد حاول الزرقاوي التوسط بين الرجلين وحل خلافاتهما ولكن من دون جدوى.
ومع انتهاء معركة الفلوجة الثانية في كانون الأول (ديسمبر) 2004 أعلن الزرقاوي مبايعته أسامة بن لادن الذي عيّنه أميراً على فرع «القاعدة» في «بلاد الرافدين». ومع تحوّل جماعة «التوحيد والجهاد» في العراق إلى فرع لـ «القاعدة» بقيادة الزرقاوي، تحوّل نبعة بدوره إلى أمير لفرع «القاعدة ببلاد الشام»، وإن كانت علاقته المباشرة بقيت محصورة بالزرقاوي وليس بـ «قيادة القاعدة» في وزيرستان. كما أن نشاط فرع «بلاد الشام» بقي محصوراً في سورية ولبنان، بما في ذلك المخيمات الفلسطينية فيه، من دون أن يتمدد إلى الأردن الذي بقي على ما يبدو مرتبطاً مباشرة بالزرقاوي في العراق.
في النصف الثاني من عام 2006 كان نشاط فرع «القاعدة في بلاد الشام» قد بلغ ذروته، إذ تدفق آنذاك مئات «الجهاديين» من دول مختلفة – خصوصاً من المغرب العربي والخليج - إلى مضافات «القاعدة» في لبنان. وقد تم إيواء جزء كبير منهم في مخيم نهر البارد في شمال لبنان والذي كانت قد سيطرت عليه جماعة «فتح الإسلام» بقيادة شاكر العبسي المنشق عن «فتح الانتفاضة». وكانت ساحة العراق قد سمحت بفتح قنوات اتصال بين الطرفين، إذ كان كلاهما يشارك في إرسال متطوعين للقتال ضد الأميركيين في «بلاد الرافدين».
لكن هذا التمدد السريع لـ «القاعدة» في لبنان (وكذلك في سورية) سرعان ما تعرّض لنكسة شديدة. ففي ربيع عام 2007 بدأت سلسلة من المواجهات بين هؤلاء «الجهاديين» وبين الجيش اللبناني الذي لجأ إلى فرض حصار على معقلهم الأساسي في نهر البارد. وعلى رغم أن المواجهات في المخيّم استمرت منذ أواخر أيار (مايو) وحتى بدايات أيلول (سبتمبر) 2007 وحصدت مئات القتلى من الجانبين، إلا أن حصيلتها كانت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار: القضاء على كتلة ضخمة من مقاتلي «القاعدة» وعلى النواة الصلبة لـ «فتح الإسلام» في لبنان. بقيت، بلا شك، بعض «الخلايا النائمة» التابعة لهذين التنظيمين والتي قامت أحياناً ببعض التفجيرات، خصوصاً ضد حافلات النقل العام التي تُقل جنوداً لبنانيين. إلا أن جماعة «فتح الإسلام» لم يعد لها وجود يُذكر سوى في جزء صغير من مخيم فلسطيني آخر هو مخيم عين الحلوة قرب صيدا في الجنوب اللبناني، في حين اختفى كلياً أي نشاط لـ «القاعدة» في لبنان، خصوصاً بعد سقوط أمير هذا التنظيم حسن نبعة في قبضة الأجهزة الأمنية اللبنانية. وكما تعرّضت خلايا «القاعدة في بلاد الشام» لنكسة كبيرة في لبنان، فإنها تعرضت لنكسة مماثلة في سورية (ومعها خلايا «فتح الإسلام»). فهذا البلد الذي غض الطرف طويلاً عن نشاط «الجهاديين» على أرضه كونهم يذهبون إلى العراق، بدأ فجأة حملة لا هوادة فيها ضد شبكاتهم. ربما شعر الحكم في سورية بأن لا حاجة له بهم الآن بعدما ساعدوه في الصمود في وجه الضغوط الهائلة التي مارستها إدارة جورج بوش (التي أغرقها «الجهاديون» في «مستنقع عراقي»). وربما شعرت سورية أيضاً بأن نشاط «الجهاديين» قد خرج عن القيود المفروضة وصار يسبب قلقاً أمنياً على أمن البلد نفسه. ومهما كانت الحقيقة، فإن النتيجة التي لا خلاف عليها هي أن «القاعدة» و "فتح الإسلام" وجدتا باب سورية موصداً في وجهيهما كما أوصد من قبل باب لبنان أمامهما.
وإذا كان كل ذلك لا يكفي، فقد تعرّضت «القاعدة في بلاد الشام» لنكسة أخرى تمثّلت في قضاء حركة «حماس» الفلسطينية على تنظيم صغير أطلق على نفسه «جيش الإسلام» في غزة وأعلن ولاءه رسمياً لتنظيم أسامة بن لادن. وعلى رغم تدخل قادة «القاعدة» الكبار في مناطق الحدود الأفغانية – الباكستانية، مثل الدكتور أيمن الظواهري وأبي يحيى الليبي، للدفاع عن «جيش الإسلام» وانتقاد حركة «حماس» وسياساتها «غير الإسلامية» (مثل المشاركة في الانتخابات «الكفرية»)، إلا أن ذلك لم يؤد إلى شق الحركة الإسلامية ولا إلى تعزيز موقع «جيش الإسلام» الذي قضت «حماس» عليه كقوة عسكرية في أيلول 2008 إثر اشتباكات دامية بينهما في مدينة غزة.

No comments: