Saturday 25 September 2010

الوجه الآخر لـ"القاعدة" (2 من 6)

الوجه الآخر لـ"القاعدة" (2 من 6) ... «معارك العرب» في أفغانستان: «القاعدة» لم ترسل مقاتلين للدفاع عن كابول
الأحد, 26 سبتمبر 2010
لندن - كميل الطويل
لم تمر أيام على الضربة الموجعة التي وجهها أسامة بن لادن إلى الأميركيين في 11 سبتمبر 2001 حتى بدا واضحاً أن ردهم لن يكون، بعكس ما توقعت «القاعدة» خطأ، مجرد صواريخ كروز تنهمر على أفغانستان. الأميركيون - الذين راهن بن لادن على أنهم «جبناء» لن يأتوا للقتال على الأرض في أفغانستان – لن يكتفوا هذه المرة بإطلاق صواريخهم العابرة للقارات من أساطيلهم المنتشرة في البحار البعيدة، بل سيأتون بأنفسهم لقتال «القاعدة» وجهاً لوجه. فتدمير برجي مركز التجارة العالمية وضرب وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) لم يكن صفعة سهلة يُمكن لأي إدارة أميركية أن تغض الطرف عنها وتعتبرها حدثاً عادياً، علماً أنها كانت أول ضربة بهذا الحجم تتعرض لها أراضي الولايات المتحدة منذ الهجوم الياباني المفاجئ على بيرل هاربر في هاواي عام 1941.

في الحقيقة، خططت «القاعدة» تخطيطاً جيّداً استمر سنوات لـ «غزوة الطائرات المخطوفة»، إلا أن ما حصل بعد 11 أيلول (سبتمبر) أظهر عجزاً واضحاً لدى هذا التنظيم في التعاطي مع تبعات أفعاله. لم تتوقع «القاعدة» أن يأتي الأميركيون بقدهم وقديدهم إلى أفغانستان، لكنهم جاؤوا. لم تتوقع «القاعدة» أن تقف باكستان، حليفة حركة «طالبان» والداعم الأساسي لها خارجياً، في صف الأميركيين، لكن إدارة الرئيس برويز مشرف وقادة أجهزة استخباراته القوية كانوا أول الواقفين مع الأميركيين ضد «القاعدة» و«طالبان». والأنكى من ذلك، بدا أيضاً أن «القاعدة» أخطأت في فهم موقف حكومة الملا محمد عمر مما يمكن أن يحصل رداً على الغزو الأميركي. فعلى رغم رفض «طالبان» تسليم بن لادن للمحاكمة خارج أفغانستان، إلا أن «القاعدة» لا بد أنها فوجئت عندما رأت أن «طالبان» بدل أن تخوض المعركة ضد الغزاة «ذابت» بسرعة مخيفة في وجه تقدم القوات الأميركية وقوات تحالف الشمال في تشرين الأول (اكتوبر) 2001. ومع ذوبان «طالبان» وانهيار مقاومتها، بدا أن «الجهاديين العرب» كانوا الوحيدين في أفغانستان الذين فكّروا في التصدي للغزو. كثيرون منهم لم يكن لديهم مكان آخر يذهبون إليه غير أفغانستان. فحتى باكستان، الملجأ الطبيعي للفارين من أفغانستان، لم تكن آنذاك خياراً سهلاً بعدما «كشّرت» أجهزة الاستخبارات عن أنيابها وبدأت تعتقل عناصر «القاعدة» وبقية «الجهاديين العرب» الذين يحاولون تفادي السقوط في «الكماشة» الأميركية التي تُطبق عليهم في أفغانستان. لكن العرب، في واقع الأمر، لم يخوضوا في أفغانستان سوى ثلاث مواجهات أساسية أظهرت، كما يبدو، ضُعفاً رهيباً لدى بعضهم – خصوصاً «القاعدة» - في فهم طبيعة المعركة وكيفية خوضها. كانت المعركة الأولى هي معركة الدفاع عن كابول ولم تشارك فيها «القاعدة» على رغم وعدها بذلك. دارت الثانية في مطار قندهار وقادها «من مكان بعيد» وعبر «جهاز للإتصالات» مسؤول اللجنة العسكرية في «القاعدة» المصري «سيف العدل». أما الثالثة فوقعت في جبال تورا بورا وقادها، بعد انسحاب بن لادن، إبن الشيخ الليبي وأبا ذر البحريني.

بعد أيام من 11 سبتمبر، أيقن قادة «القاعدة» أن رد إدارة جورج بوش لن يكون كرد إدارة بيل كلينتون: بضعة صواريخ كروز على معسكرات مهجورة في أفغانستان. فكّروا سريعاً في «خدعة» تمنع الأميركيين من المجيء، أو وتؤخر ضربتهم، على الأقل، إذا لم يكن في الإمكان وقفها تماماً. لم تكن «القاعدة» قد نجحت بحلول 11 سبتمبر في الحصول على «سلاح الردع» النووي أو الكيماوي أو البيولوجي الذي كان محمد عاطف («أبو حفص الكومندان») يريد تهديد الأميركيين به لمنعهم من تنفيذ أي ضربة محتملة ضد إدارة «طالبان» (راجع الحلقة السابقة). لكن، على رغم ذلك، قررت قيادة «القاعدة» إبلاغ الأميركيين بأنها تملك فعلاً أسلحة دمار شامل وأنها لن تتوانى عن استخدامها إذا ما فكّروا في توجيه ضربة لأفغانستان.

نقلت «القاعدة» رسالتها هذه إلى إعلامي أرسله الإسلامي الليبي نعمان بن عثمان إلى كويتا (بلوشستان، باكستان) بعدما أوصى أصدقاء نافذين في أفغانستان بأن يؤمنوا له لقاء نادراً مع الملا عمر المعروف أصلاً بأنه لا يلتقي في العادة بصحافيين ولا يدلي بمقابلات مع وسائل الإعلام. كان هذا الصحافي ينتظر موعد «خبطته الإعلامية» في كويتا في الفترة التي سبقت بدء الضربة الأميركية لأفغانستان في 7 تشرين الأول (اكتوبر). وعندما عرفت قيادة «القاعدة» بوجوده هناك أرسلت إليه مغربياً من عناصرها ناقلاً إليه «رسالة». «قيادة القاعدة»، كما قال المغربي، «تريد إبلاغ الأميركيين بأنها تملك أسلحة دمار شامل. إننا مستعدون لاستخدامها، وعلى الأميركيين أن يعرفوا ذلك».

حصل الصحافي على فرصة لقاء نادر مع الملا عمر ونشره. لكنه لم يستطع أن يمرر «كذبة» تنظيم «القاعدة» بأنه يملك «أسلحة دمار» - غير موجودة أصلاً – في صحف عربية ذات انتشار دولي، فنشرها في صحيفة عربية «قومية» صادرة في بيروت. 

وليس واضحاً لماذا لم تنطل «خدعة القاعدة» على الأميركيين وهل كان هؤلاء يعرفون فعلاً أن تنظيم بن لادن لا يملك مثل هذه الأسلحة. فقد قررت إدارة الرئيس بوش السير في خطتها التي أُعدّت على عجل، على الأرجح، لغزو أفغانستان، خصوصاً بعد فشل اتصالات سرّية كانت تتم مع بعض قادة «طالبان» في كويتا. طلب ممثلو الأميركيين من «طالبان» في تلك الاتصالات أن يُسلّموا أسامة بن لادن وقادة تنظيمه المشتبه في تورطهم في هجمات 11 سبتمبر للمحاكمة أمام القضاء الأميركي. لكن «طالبان» تمسّكت بعدم استجابة الطلب وجادلت بأن تسليم بن لادن لا يجوز شرعاً (من منطلق عدم جواز تسليم المسلم إلى كافر). كما لفت ممثلو الجانب الأفغاني إلى أن «طالبان» حذّرت الأميركيين مسبقاً من أن «القاعدة» على وشك القيام بعمل ما ضدهم، وبالتالي فإنها لا يجب أن تتحمل مسؤولية فشل الأميركيين في حماية أنفسهم، على رغم أن التحذير المزعوم لم يحدد موعد الضربة ولا أهدافها.

كابول

كانت جموع العرب قد بدأت بالإنسحاب من كابول في الأسبوع الذي سبق هجمات 11 سبتمبر، بناء على تحذير من «القاعدة» بأن عليهم توقّع رد أميركي على عمل ستقوم به. غادر كثيرون العاصمة الأفغانية، لكن بعضهم أصر على البقاء فيها لمشاركة «طالبان» في الدفاع عن عاصمتهم.

كان «أبو الليث الليبي»، القيادي البارز في «الجماعة المقاتلة» الليبية، واحداً من هؤلاء. بقي معه المسؤول الشرعي في «المقاتلة» سامي الساعدي (أبو المنذر). جمع «أبو الليث»، وهو مقاتل محنّك، عدداً من المقاتلين وقرر أن أفضل خط للدفاع عن العاصمة الأفغانية يجب أن يكون عند «جبهة شمالي»، الموقع السابق الذي كان لسنوات طويلة الخط الفاصل بين قوات «طالبان» وقوات تحالف الشمال بقيادة الزعيم الراحل أحمد شاه مسعود (أسد بانشجير) الذي اغتالته «القاعدة» قبل يومين فقط من 11 سبتمبر. اتصل «أبو الليث» بقيادة «القاعدة» وشرح لها أهمية الدفاع عن «جبهة شمالي» وضرورة عدم السماح بسقوط كابول، كونها عاصمة الإمارة وكون إدارات الحكومة كلها موجودة فيها. وافقت «القاعدة» في البداية على إرسال 200 مقاتل للدفاع عن كابول، على ما يقول نعمان بن عثمان. لكن بعد انتظار طال أياماً لم يصل هؤلاء المقاتلون، فاتصل «أبو الليث» لمعرفة سبب التأخير، فأبلغته قيادة «القاعدة» بأنه لا يمكنها تأمين هذا العدد – إذ كان معظم المقاتلين الأشداء يتوجهون آنذاك إلى تورا بورا للإلتحاق بأسامة بن لادن الذي سبقهم إلى هناك للإعداد للمعركة. لكن «القاعدة»، على رغم ذلك، وعدت «أبو الليث» بإرسال نحو 50 مقاتلاً. انتظر القيادي الليبي مجدداً وصول هؤلاء لتوزيعهم على الجبهة، لكنهم لم يصلوا. أجرى مزيداً من الاتصالات وتلقى مزيداً من الوعود. في نهاية المطاف لم تُرسل «القاعدة» أي مقاتل للدفاع عن كابول التي سقطت في 12 تشرين الثاني (نوفمبر) مثل غيرها من المدن الأفغانية التي كانت تتساقط كأوراق الخريف في يد قوات تحالف الشمال وطلائع القوات الأميركية.

«حصل نوع من الغدر في معركة كابول»، كما يقول بن عثمان الذي كان على اتصال مباشر مع «أبي الليث» بعد سقوط العاصمة الأفغانية وانسحابه إلى باكستان. ويوضح: «كان من الممكن فعلاً الدفاع عن كابول. فقد طلب أبو الليث من أسامة بن لادن أن يرسل مقاتلين للدفاع عن جبهة كابول. كانت وجهة نظره أنه يجب منع قوات تحالف الشمال من دخول كابول، لأنها إذا صمدت ستبقى الإمارة». ويضيف: «كان أبو الليث يقود المعركة هناك، وصمد فيها. كان معه أبو المنذر الذي بقي للقتال ومعه أشخاص معروفون. طلب أبو الليث قوة بشرية من بن لادن الذي وافق على إرسالها. فقد كان يحتاج إلى قوة بشرية لأنه يعرف أن الأفغان (أي مقاتلي طالبان) يمكن أن ينهزموا. هم مقاتلون أشداء ولكن الأسهل للأفغاني أن ينسحب عندما تدب الفوضى فهو يعرف أن في إمكانه أن يعود غداً. لكن الأخوة العرب الذين كانوا هناك بقيادة أبي الليث وأطراف أخرى لم يكونوا موافقين على هذه الفكرة. كانوا يقولون إن بإمكاننا الصمود والحفاظ على جبهة كابول وإذا صمدنا فسيتم ردع العدو ومنعه من أن يسيطر على أفغانستان كلها. كانوا فعلاً مؤمنين بأنه يمكن هزيمة الطرف الآخر. قالوا له (لبن لادن): عززنا بأعداد كبيرة من العرب. كانوا يعتقدون أننا لو تمكنا من القتال والصمود - بحسب ما اثبتوا من قدرات أيام الجهاد ضد السوفيات - فإن ذلك سيدفع الأفغان أنفسهم إلى الاستمرار في القتال والصمود. اتصلوا بالقاعدة وبن لادن، وكان طلبهم الأول، كما أذكر، 200 مقاتل للتصدي لأي هجوم يحصل على جبهة شمالي. انتظروا طويلاً وصول هؤلاء المقاتلين، لكنهم لم يصلوا. عاودوا الاتصال بهم فقيل لهم إن ليس لدينا هذه الإمكانية، إذ كانت القاعدة توزّع مقاتليها استعداداً لخوض معركتي قندهار وتورا بورا. لكن القاعدة وعدت بأن ترسل 50 مقاتلاً فقط للدفاع عن كابول. في كل مرة كان هذا العدد ينزل. انتهت القصة بأنهم لم يرسلوا أحداً».

ويقول بن عثمان إن «ابا الليث وأبا المنذر لم ينسحبا من كابول حتى سقوطها. خسرت الجماعة المقاتلة في الدفاع عن كابول أربعة من مقاتليها كانوا قد توغّلوا في صفوف تحالف الشمال. أحد هؤلاء كان أخاً من طرابلس يدعى أسد الله وكان على اتصال بأجهزة الاتصالات مع أبي الليث. أبلغه في المكالمة الأخيرة بينهما أن العدو قد أحاط بهم وأنهم يرفضون الاستسلام. قاتلوا حتى قُتلوا. عبارته الأخيرة مع أبي الليث كانت إن لقاءنا في الجنة بإذن الله».

استغرب كثيرون من العرب آنذاك كيف أن «طالبان» لم تلجأ إلى الدفاع عن عاصمتها ومدنها الكبرى. لكن واقع الأمر أن الحركة كانت تعرف أن مقاتليها ليسوا غرباء عن مدنهم، وأنهم بمجرد القائهم السلاح سيصيرون كأي مواطن أفغاني عادي، وسيكون في وسعهم لاحقاً إعادة تنظيم أنفسهم بعد هدوء العاصفة لبدء حرب عصابات بهدف طرد نصف أميركي خلال غزو أفغانستان (أ ف ب).jpgالقوات الأجنبية المحتلة. ولعل هذا ما يفسّر إلى حد كبير لماذا لم تقاتل «طالبان» بشراسة للدفاع عن مدنها، وهو أمر لم يفهمه كثيرون من العرب آنذاك لكنه صار واضحاً اليوم بعدما تمكنت الحركة مجدداً من إعادة لم شملها وبسط نفوذها على أجزاء واسعة من جنوب البلاد في شكل خاص.

معركة مطار قندهار

مع سقوط كابول في 12 تشرين الثاني (نوفمبر)، انتقل الإهتمام إلى الوضع في ولايات الجنوب البشتوني، وتحديداً قندهار العاصمة الروحية لـ «طالبان». كانت «القاعدة» قد فقدت في قندهار في الأيام الأولى لبدء الهجوم الأميركي قائدها العسكري «أبا حفص المصري» (الكومندان) الذي قُتل مع قرابة 17 شخصاً آخرين بغارة أميركية على «مضافة اليرموك» – التي كانت ما زالت موقعاً سرياً دُشّن قبل شهرين تقريباً من 11 سبتمبر - خلال انتظاره هناك الحصول على نسخة من شريط مصوّر مضغوط (دي في دي) طلبه من عاملين في المضافة. وهنا أيضاً وعلى رغم الاستعدادات الواسعة لخوض واحدة من أشرس المعارك دفاعاً عن المعقل الأخير للإدارة الطالبانية، وافق الملا عمر في نهاية المطاف على إخلاء المدينة بلا قتال في 7 كانون الأول (ديسمبر). في ذلك اليوم، انتهى رسمياً حكم «طالبان» لأفغانستان. استقل الملا عمر، كما قيل، دراجة نارية وفر شمالاً في اتجاه أورزغان، قبل أن يجد طريقه لاحقاً إلى باكستان حيث أعاد تأسيس «طالبان» في المنفى بقيادة مجلس جديد للشورى يُعرف باسم «شورى كويتا»، نسبة إلى هذه المدينة الباكستانية التي يُزعم أن «طالبان» تتخذها قاعدة لها.

ولكن في وقت كانت «طالبان» تستعد لإلقاء السلاح في قندهار كانت «القاعدة» تخوض معركة على بُعد أميال من المدينة من دون أن يكون واضحاً الهدف الذي كانت تسعى إلى تحقيقه من قتال خصم يتفوّق عليها عدة وعدداً. فقد قررت «القاعدة» آنذاك أن تتصدى للأميركيين في مجمّع مطار قندهار الذي يقع في منطقة صحراوية تبعد نحو 10 أميال خارج المدينة. لكن الغريب أن معظم الذين تُركوا لخوض المعركة في نهاية المطاف لم يكونوا أفراداً في «القاعدة» بل مجرد متطوعين التحقوا بأفغانستان للتدرب على الجهاد. كما أن إدارة المعركة لم تتم سوى «من مكان بعيد» إذ تولاها «سيف العدل» الذي كان يُصدر توجيهاته من خلال «جهاز للإتصالات»، على ما يقول نعمان بن عثمان الذي يؤكد أنه على اتصال مع أشخاص نجوا من تلك المعركة ونقلوا إليه وقائعها.

قبل سنوات أتيحت لي فرصة زيارة الموقع الذي تحصّن فيه العرب في مجمع مطار قندهار. أخذني ضابط كبير في قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في جولة عبر المطار الذي كان قد تحوّل إلى مجموعة مخيّمات ضخمة تعج بآلاف الجنود من دول عديدة مشاركة في الحرب ضد «القاعدة» و«طالبان». توقف الضابط فجأة عند مبنى إسمنتي محصّن في داخل مجمع المطار وقال بنوع من الاستغراب: «هنا كان العرب يتحصنون ... وهنا قُتلوا». كان يشير إلى أسفل مبنى يغطيه الغبار وبدت آثار القصف واضحة عليه كان العرب قد تحصّنوا فيه – وفي مواقع أخرى في المطار - ينتظرون قدوم «الغزاة» الأميركيين. لكن عندما جاء هؤلاء لم يكن في إمكان عدد محدود من المقاتلين أن يصدوهم. فقد دمّرت الطائرات الأميركية تحصينات العرب حتى قبل أن يتمكنوا من مغادرتها وقتلت العشرات منهم.

يقول بن عثمان عن معركة المطار: «هناك أمر غامض في تلك المعركة التي راح ضحيتها عدد كبير من العرب. أصرت القاعدة على حماية مجمع مطار قندهار، ولكن ما هي أهمية ذلك الموقع؟ كانت عملية تنم عن غباء عسكري على رغم أن قائدها لديه خلفية عسكرية (سيف العدل ضابط سابق في القوات المسلحة المصرية)». ويوضح: «لا يمكن لمقاتل حرب عصابات أن يواجه قوات مسلحة نظامية بهذه الطريقة. كيف يمكن لعدد محدود من المقاتلين أن يدافعوا عن المطار وهم لا يملكون سوى رشاشات وقذائف «آر بي جي»؟ لوقف الهجوم الأميركي كانوا في حاجة إلى قوة نارية كبيرة وسلاح قادر على تحييد سلاح الجو. والغريب في الأمر أن «سيف العدل» كان يقود المعركة من خلال جهاز اتصالات من منطقة بعيدة جداً (عن المطار). كان الأخوة يريدون الانسحاب، لكنه أصر على البقاء. أعرف أشخاصاً شاركوا في المعركة وقد تكلمت معهم عما حصل. إنني أوجّه لهم رسالة أن يتكلموا علناً عن حقيقة ما حصل في تلك المعركة. أعرف أنهم يحمّلون سيف العدل المسؤولية عن مقتل عناصر القاعدة وبقية العرب هناك. أرجو أن يتمكن سيف العدل من أن يدافع عن نفسه. هناك أخ تونسي أصيب برصاصتين في معركة المطار لكنه تمكّن من الوصول إلى المدينة (قندهار) على رغم بعد المسافة. وصل إليها ثم خرج منها ولديه تفاصيل عما حصل. ولذلك أرجو أن يتمكن سيف العدل من أن يدافع عن نفسه ويشرح كيف حصلت عملية سحب المقاتلين من المطار فعلاً. فقد كان يتصل، بحسب ما يقول الأخ التونسي، ويقول إن فلاناً مطلوب سحبه من المطار. ثم يتصل مرة ثانية ويطلب سحب أخ آخر. الأسماء كلها التي سحبوها أو التي خرجت من المطار كانت من تنظيم القاعدة. أما الأفراد الذين بقوا هناك فلم تكن لدى معظمهم خبرة عسكرية أصلاً ولم يكونوا يعرفون حتى ماذا سيفعلون في حال انسحبوا أو إلى أين سيذهبون. وضعوهم هناك وتركوهم. قُتل عدد كبير جداً من العرب في تلك المعركة. وهم (الناجون) يقولون إن ما حصل يتحمل مسؤوليته تنظيم القاعدة وتحديداً «سيف العدل» الذي كان يقود المعركة من خلال جهاز. «القاعدة» تطالب الآخرين بالشفافية والمحاسبة ولا تطبق ذلك على نفسها. لقد فشلت «القاعدة» وأثبتت أنها غير قادرة ولذلك يجب أن تُحاسب. إنني أدعو المجاهدين الذين لا يخشون في الله لومة لائم، كما يقولون، وهم أحرار طلقاء وبإمكانهم أن يدلوا بشهاداتهم حول هذه المسألة، أن يتقدموا ويفعلوا الشيء الذي يطالبون الحكومات بأن تقوم به وهو الشفافية والمحاسبة والمسؤولية، اللهم إلا إذا كانت هناك امتيازات أنزلها الله تعالى ونحن لا نعلمها وخص بها المولى عزّ وجل الإسلاميين دون غيرهم من المسلمين». ويكشف بن عثمان أن عدداً من الشهود على معركة مطار قندهار فروا إلى إيران حيث وضعوا في معسكرات خاصة يشرف عليها الحرس الثوري، وأن جدلاً شديداً نشب بينهم في شأن من يتحمّل مسؤولية المعركة. ويزعم أنه على اتصال مع بعض هؤلاء الذين خرجوا من إيران الآن. 

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن نشر هذه الرواية عن تفاصيل معركة مطار قندهار تستند إلى رواية بن عثمان، وهو من منتقدي لـ «القاعدة» وبالتالي فإنه روايته قد تكون منحازة ضدها. لكن، في المقابل، لم تُصدر «القاعدة»، من جهتها، شرحاً لما حصل في تلك المعركة من وجهة نظرها كي يمكن اللجوء إليها. كما أن سيف العدل كان من ضمن عناصر التنظيم الذين انتقلوا إلى إيران بعد هجمات 11 سبتمبر، ويُزعم أنه وُضع هناك في مركز اعتقال أو في إطار نوع من الإقامة الجبرية الأمر الذي لا يسمح له بأن يدافع عن نفسه ويقدّم روايته لما حصل في تلك المعركة.

معركة تورا بورا

كان أسامة بن لادن قد انتقل إلى تورا بورا في سلسلة جبال سبين غار (الجبل الأبيض) على حدود ولاية ننغرهار الأفغانية مع باكستان منذ الأيام الأولى التي تلت «غزوة نيويورك وواشنطن». لم ينتظر سقوط كابول وقندهار وانهيار حكم «طالبان». كان يعرف أن الأميركيين يريدون رأسه كونه المسؤول الأول عن ذلك الهجوم. فانتقل مباشرة إلى تورا بورا، وهي منطقة جبلية تعرفها «القاعدة» جيّداً منذ أيام الجهاد الأفغاني. وقبل انتقاله إلى هناك، استقبل بن لادن في قندهار عدداً من «الجهاديين العرب» بينهم بعض المنتقدين السابقين لسياساته. وقد أعلن بعضهم أنهم «يبايعون أسامة بن لادن على القتال»، كما قال أحد الجهاديين المشارقة المعروفين والذي كان على خلاف شديد مع بن لادن. غير أن آخرين وبينهم قادة في «القاعدة» نفسها، مثل «أبي حفص الموريتاني» مسؤول اللجنة الشرعية و«أبي محمد الزيات» مسؤول اللجنة الأمنية، لم يكونوا راضين عما قام به أميرهم، خصوصاً لمخالفته المزعومة لتعليمات الملا عمر الذي كان بن لادن قد بايعه على السمع والطاعة.

وليس واضحاً، في الحقيقة، هل توقّع بن لادن فعلاً عندما انتقل إلى تورا بورا أن يرى «الجبناء» الأميركيين يلحقون به إلى هناك. لم يكن الأميركيون وحدهم من أرسل قوات النخبة لملاحقة «القاعدة» في تلك الجبال الوعرة المسالك والتي تغطيها الثلوج الكثيفة لفترات طويلة خلال فصل الشتاء. فالبريطانيون بدورهم أرسلوا قوات الكوماندوس (أس أي أس) التي خاضت قتالاً وجهاً لوجه مع مقاتلي بن لادن. لكن المعركة الحقيقية، في الواقع، تمت على أيدي الأفغان أنفسهم من أبناء المنطقة. فقد استعان الأميركيون بخدمات حضرت علي، في حين استعان البريطانيون بحاجي زمان. كان كلاهما من قادة المجاهدين البشتون في جنوب شرقي أفغانستان ويعرف المنطقة عن ظهر قلب.

لم يكن لدى بن لادن ومقاتليه خيارات عديدة ينتقون منها ما يلائمهم. كانوا يريدون خوض المعركة، لكن موازينها لم تكن في مصلحتهم. فالطائرات كانت تصطادهم كلّما تحرّكوا خارج مواقعهم، وقوات النخبة الأميركية والبريطانية كانت تتقدم في اتجاههم، ومعها مئات المقاتلين الأفغان من مناصري حضرت علي وحاجي زمان. والأنكى من كل ذلك أن الثلوج كانت بدورها تهدد بمحاصرة الناجين من الضربات الأميركية في قمم تورا بورا.

كان أمير «الجماعة المقاتلة» الليبية أبو عبدالله الصادق واحداً من العرب الذين سلكوا طريق تورا بورا في اتجاه باكستان خلال وجود بن لادن هناك. لكن الليبي رفض أن يقاتل إلى جانب زعيم «القاعدة»، بحسب ما يؤكد نعمان بن عثمان. لم يرفض الصادق القتال جُبناً. فهو مقاتل سابق في أفغانستان، وسبق له أن أصيب بشظايا صاروخ «آر بي جي» خلال معارك لوغر في أواخر أيام الجهاد. لكنه رفض هذه المرة أن يقاتل إلى جانب بن لادن. يقول بن عثمان شارحاً ما حصل لـ «أمير» جماعته: «كان الأخ أبو عبدالله الصادق ومعه مجموعة من عناصر «المقاتلة» في تورا بورا، لكنه رفض أن يقاتل وقال لبن لادن: إنسحب من هنا. رفض أن يبقى في الميدان وقال إنني لا أستطيع أن أتحمّل مسؤولية مقتل الناس الذين معي. أخذ عناصر المجموعة الذين كانوا معه وانتقل بهم إلى باكستان». ويضيف: «كان الصادق خلال تقدمه نحو تورا بورا يمر بقرى أفغانية ويرى أبناءها يضحكون على العرب. كانوا يقولون إن العرب مجانين لن يتمكنوا من البقاء هناك لأكثر من أسبوع». كانوا يقصدون، على ما يبدو، ليس فقط أن احتفالات بسقوط كابول في يد قوات تحالف الشمال (رويترز).jpgالأميركيين وحلفاءهم سيصعدون إليهم خلال أيام، بل أيضاً أن الثلج المتساقط سيجعل المنطقة معزولة بالكامل عن العالم الخارجي وسيقضي على عناصر «القاعدة» هناك إذا لم يكونوا قد استعدوا استعداداً جيداً لمجيء فصل الشتاء القارس. ويوضح بن عثمان أن الصادق قابل في تورا بورا أبا ذر البحريني وابن الشيخ الليبي، وهما الشخصان اللذان كلّفهما زعيم «القاعدة» بقيادة المعركة بعد انسحابه. ويضيف: «كان واضحاً من كلام الرجلين أنه لم تكن لديهما خطة واضحة (للتصدي للأميركيين). إبن الشيخ الليبي انتهى به الأمر في باكستان حيث اعتقل هناك. بن لادن نفسه إضطر إلى الفرار من تورا بورا لأنه شعر بأنه سيُهزم. فوجئ بلا شك بدخول حاجي زمان وحضرت علي المعركة، كما فوجئ بأن مقاتليه يتواجهون وجهاً لوجه مع الجنود الأميركيين ... الجبناء».

No comments: