Wednesday 2 January 2008

بوتفليقة الأوفر حظاً

هذا الموضوع كتبته خلال زيارة للجزائر عام 2004 قبل انتخاب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة رئيساً لولاية ثانية.


بوتفليقة الأوفر حظاً ... لكن صراعه مع بن فليس على جبهة التحرير قد ينهكهما لمصلحة مرشح "جوكر"

الجزائر - كميل الطويل الحياة 2004/01/14
"لو كنت أشارك في رهان في سباق لوضعت نقودي على حصان بوتفليقة". هكذا لخّص سفير دولة كبرى تقويمه لمن سيفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة في الجزائر. لكنه أضاف ان معطيات كثيرة قد تظهر قبل الانتخابات المتوقعة بين آذار (مارس) ونيسان (ابريل) المقبلين, وتغيّر مجراها لمصلحة مرشح آخر "جوكر ... لا يعرف اسمه سوى قلة". لم يكن يحتاج لأن يكون أكثر وضوحاً. فقد كان يشير بلا شك الى دور المؤسسة العسكرية في وصول رؤساء سابقين الى قصر المرادية, بدءاً بالراحل محمد بوضياف عام 1992, ثم الجنرال اليمين زروال رئيساً انتقالياً في 1994, وأخيراً عبدالعزيز بوتفليقة في انتخابات 1999.
حصان بوتفليقة يبدو اليوم وكأنه في طليعة السباق الذي لم يبدأ بعد, وإن كانت انطلاقته الرسمية متوقعة خلال أيام. خلفه, كما قال السفير ذاته, حصان علي بن فليس, لكنه يبدو منهكاً بعد اصابته بنكسة "قضائية" تسعى الى حرمانه من الحصول على تزكية حزبه, جبهة التحرير الوطني, في المنافسة المقبلة. أحصنة كثيرة أخرى تستعد أيضاً لدخول السباق لكنها تبدو كأنها "ديكور" يكمل الصورة عوض ان تكون منافساً جدياً, على رغم ان بعضها من "الوزن الثقيل" سياسياً مثل أحمد طالب الابراهيمي ومولود حمروش, كذلك هناك الشريف بلقاسم وعلي يحيي عبدالنور ورشيد بن يلس ورضا مالك وسعيد سعدي ومقداد سيفي واحمد بن بيتور. وثمة من يطرح حتى اسم وزير الخارجية السابق الاخضر الابراهيمي صاحب الوزن الثقيل في المحافل الدولية والذي انتهت فترة ولايته كممثل للأمم المتحدة في أفغانستان و"لا يبدو انه مستعد للتقاعد بعد", على حد ما قال ديبلوماسي بارز. ولا شك ان معظم الراغبين في الترشح يأمل بأن يُنهك حصانا بوتفليقة وبن فليس في صراعهما على "ورقة جبهة التحرير" قبل بدء الاقتراع فتتدخل "جهات عليا" تُنظّم السباق وتبعد بعض المتسابقين منه.
فكيف تبدو الساحة السياسية في الجزائر عشية الانتخابات الرئاسية الجديدة التي فُتح باب الترشيح لها رسمياً ويُتوقع استدعاء هيئتها الناخبة في غضون أيام؟ "الحياة" التي تواكب التحضيرات للانتخابات المقبلة, تنشر بدءاً من اليوم سلسلة من التقارير والمقابلات مع شخصيات سياسية نافذة في البلاد, مثل وزير الخارجية عبدالعزيز بلخادم الذي يقود "حركة تصحيحية" في جبهة التحرير لتأييد بوتفليقة, وعبدالقادر حجّار سفير الجزائر في طهران و"مهندس الانقلابات" ضد الأمين العام السابق عبدالحميد مهري عام 1996 والانقلاب الذي يُحضّر اليوم ضد بن فليس.
كذلك تنشر "الحياة" مقابلة مع بن فليس نفسه يعرض فيها مشروعه الانتخابي في حال وصوله الى سدة الرئاسة. كما تشمل المقابلات لقاء طويلاً مع علي بن حجر القيادي الإسلامي البارز في جبال المدية, غرب العاصمة, يتحدث فيه عن الوضع في البلاد بعد انضمامه الى الوئام المدني وسبب رفضه توجيه نداء الى المسلحين للنزول من الجبال.
كيف تبدو صورة الوضع في الجزائر عشية الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ وما هو موقع التيارات السياسية الأساسية في البلاد؟
سيلعب التيار الوطني الجزائري, وهو التيار السياسي الأكبر في البلاد, دوراً رئيسياً في وصول واحد من المرشحين الى قصر الرئاسة. وتقود هذا التيار تاريخياً جبهة التحرير الوطني التي يقودها حالياً أمينها العام رئيس الحكومة السابق علي بن فليس. وبما ان تزكية الجبهة صاحبة الغالبية في المجلس الشعبي الوطني (البرلمان) ضرورية لفوز أي من المرشحين, فلم يكن مستغرباً ان يتصارع المتنافسون لكسب ودها و"طلب يدها". وكان بن فليس نفسه أول هؤلاء. فنظّم في اذار (مارس) الماضي المؤتمر الثامن للجبهة وكرّس فيه استقلاليتها عن مراكز صنع القرار في الحكم. لم يخطئ بوتفليقة في تفسير القرار وانه المستهدف به, فحرّك مؤيديه لإطاحة بن فليس وإعادة جبهة التحرير الى "بيت الطاعة". لكن ذلك لم يكن بالأمر السهل, إذ ان بن فليس كان عدّل قوانين الجبهة الداخلية في شكل يسمح له بالتحكم في مجريات الأمور داخلها وإدارتها في الوجهة التي يريدها (منحته الجبهة صلاحيات واسعة في تعيين المناضلين بدل انتخابهم).
وفي وقت كان بن فليس يسعى الى تكريس نفوذه في الجبهة مراهناً على "جيل الشباب" الذين اتاح لهم فرصة التقدم على حساب "الحرس القديم" من المشاركين في ثورة التحرير في الخمسينات والستينات, بدا ان هؤلاء يتكتلون حول بوتفليقة ضده في إطار "الحركة التصحيحية". قاد هؤلاء وزير الخارجية عبدالعزيز بلخادم, بمساعدة وزير الداخلية يزيد زرهوني المسؤول السابق عن جهاز الاستخبارات, و"مهندس الانقلابات" في جبهة التحرير عبدالقادر حجار الذي طلب من رئيس الجمهورية "اعفاءه" من منصب السفير في طهران لـ"التفرغ" لعملية إطاحة بن فليس, مكرراً ما فعله قبل أعوام عندما قاد إنقلاباً أطاح عبدالحميد مهري من الأمانة العامة بسبب توقيعه "عقد روما" مع ممثلين للجبهة الإسلامية للإنقاذ عام 1995.
تمثّلت الخطوة الأولى التي قام بها معارضو بن فليس في تحرك سريع للسيطرة على مقرات جبهة التحرير في الولايات ووضعها تحت إشراف "الحركة التصحيحية". لكن تلك الخطوة لم يكتب لها النجاح, على رغم مزاعم بأن وزير الداخلية زرهوني سمح لقواته الأمنية بمساندة فريق ضد آخر.
ومع اقتراب موعد الانتخابات تسارع الصراع على الجبهة, وشعر أنصار بن فليس بأن المحيطين ببوتفليقة يحضّرون لضربة ما فأسرعوا في عقد مؤتمر استثنائي في كانون الأول (ديسمبر) أعلن تزكية ترشحه للرئاسة. ويقول عضو في اللجنة المركزية من مؤيدي بن فليس لـ"الحياة" ان لجنة قيادية في الجبهة أخذت ترسم سيناريوهات لما يمكن ان يلجأ اليه معارضوه رداً على ذلك, وان أكثر هذه السيناريوهات سوءاً أُطلق عليه اسم "سيناريو الكاتاستروف (الكارثة)" وتضمن ان يلجأ القضاء الى تجميد نشاط جبهة التحرير واللجوء الى المجلس الدستوري لمنع ترشح بن فليس (من خلال الطعن في التوقيعات المطلوبة منه - 75 الف توقيع من الولايات الـ48 كافة). ويبدو ان الجزء الأول من هذا السيناريو قد تحقق فعلاً في نهاية كانون الأول (ديسمبر) الماضي من خلال القرار الصادر عن الغرفة الإدارية في العاصمة, وإن لم يكن واضحاً بعد هل يمكن ان يلجأ القضاء ايضاً الى حرمان بن فليس من حق الترشح.
وفي أي حال, الواضح ان تزكية جبهة التحرير ترشيح بن فليس تعرضت لنكسة قوية, يزيدها سوءاً ان القضاء لم يسلّم بعد نص قرار تجميد هيئات الجبهة, وهو أمر يسمح اذا تم بتقديم طعن في القرار. ويملك القضاء مهلة 30 يوماً لتسليم نص القرار, ما يعني ان بن فليس لن يكون في وسعه قلب الحكم قبل بدء الترشيحات رسمياً, وربما قبل بدء الحملات الانتخابية.
لكن حرمان بن فليس من دعم جبهة التحرير لا يعني ان بوتفليقة حسم الأمر لمصلحته. ويُسرع مؤيدوه حالياً لعقد مؤتمر جديد يعلنون فيه تزكية الجبهة ترشيح بوتفليقة, وهو أمر متوقع في غضون أيام. لكن غير واضح حتى الآن هل سيكون المؤتمر "جامعاً" لتيارات الجبهة المختلفة, أم انه سيكون تجمعاً لمؤيدي بوتفليقة فقط. وفي كل حال, يبدو أنصار بوتفليقة عاجزين عن الدعوة الى مؤتمر شرعي لعدم امتلاكهم غالبية ثلثي اللجنة المركزية, وهو أمر ضروري لعقد أي مؤتمر. لذلك قد يلجأون الى عقد "مؤتمر سياسي" يتلافون فيه عقدة الاجراءات التنظيمية, على رغم ان تحركهم ضد بن فليس تم تحت هذا الشعار وليس شعار ترشحه الى الانتخابات.
ويصف قطب كبير في جبهة التحرير في لقاء مع "الحياة" الصراع بين بوتفليقة وبن فليس بأنه "صراع ديكة. يتصارعان على الرصيد الكبير لجبهة التحرير ومن يستطيع ان يستخدمها أداة انتخابية, وهذا لا يليق بحزب كبير مثلها". ويضيف انه لا يرى فرقاً بين بوتفليقة وبن فليس "فكلاهما لا يعبّر سوى عن حاجات انتخابية من ضمن منطق النظام الذي قام بعد 1992".
التجمع الديموقراطي
وفي ظل هذا الصراع بين بوتفليقة وبن فليس على السيطرة على جبهة التحرير, يطل التجمع الوطني الديموقراطي برأسه بوصفه القوة الأساسية الثانية في البلاد. وتكمن أهمية هذا التجمع في أمور عدة أهمها قربه من دوائر صنع القرار في الحكم, وتوليه مواقع حساسة في الإدارة. ويبدو ان التجمع حسم حتى الآن موقفه بإعلان أمينه العام أحمد أويحيى دعم ترشيح بوتفليقة لعهدة رئاسية ثانية. وتختلف الأوساط السياسية في الجزائر في تفسيرها لخطوة أويحيى. ففي حين يقول بعض المصادر ان ذلك يعني ان المؤسسة العسكرية الذي يُحسب أويحيى عليها, لن تؤيد مرشحاً ضد بوتفليقة وتركت الحرية لمن يريد مساندته, يقول آخرون ان أويحيى "يرد الجميل" لرئيس الجمهورية الذي تدخل العام الماضي لإنقاذه عندما بدا ان موقعه على رأس التجمع مهدد بإنقلاب داخلي كاد ان يؤدي الى تولي الوزير الشريف رحماني منصب الأمين العام محله. ويوضح هؤلاء ان بوتفليقة "رمى بثقله" آنذاك لمصلحة أويحيى فقرر الأخير رد الجميل له.
لكن مصادر أخرى تقول ان أويحيى لديه طموحه السياسي, وانه أراد الترشح للرئاسة فسعى الى "جس نبض" أطراف فاعلة في الدولة لمعرفة رأيها ولم يتلق رداً مشجعاً, فقرر دعم بوتفليقة على أساس انه المرشح الأوفر حظاً, عسى ان يبقى الى جانبه خمس سنوات جديدة تؤهله ربما الى الترشح للرئاسة في 2009. أويحيى كشخص لا يبدو محبوباً جداً في الأوساط الشعبية, ويُنظر اليه بوصفه محسوباً على المؤسسة العسكرية ومنفّذاً لتوجيهاتها. ونقطة ضعفه الأساسية انه قبائلي ربما لا ترتاح اليه الأوساط العربية. ويبدو انه حقق أخيراً انجازاً مهماً في حل مشاكل مطالب سكان ولايات القبائل الذين باتوا شبه خارجين عن سلطة الحكومة المركزية منذ اضطرابات ربيع العام 2001. وحل هذه المشكلة المستعصية سيعني ان الرئيس الجديد سيكون منتخباً من كل ولايات البلاد, على عكس الانتخابات النيابية والمحلية السابقة التي لم تشارك فيها مناطق القبائل.

الإسلاميون
والإسلاميون هم الطرف الثاني, بعد التيار الوطني, الأكثر قوة في المعادلة السياسية في الجزائر. لكن لا يبدو انهم موحدون حول مرشح موحد. ولعل الشيخ عبدالله جاب الله رئيس حركة الإصلاح الوطني هو أقواهم حتى الآن, علماً بأنه ترشح في انتخابات 1999 وانسحب مع بقية منافسي بوتفليقة بحجة ان الاقتراع سيزوّر لمصلحته. وينوي جاب الله مجدداً الترشح هذه المرة, ولكن على رغم التأييد الذي يحظى به خصوصاً في مناطق الشرق (معقله في عنابة), وقول رئيس أركان الجيش الفريق محمد العماري ان المؤسسة العسكرية لن تعترض على الرئيس المقبل حتى وإن كان إسلامياً "مثل جاب الله", إلا ان الأرجح ان زعيم "الإصلاح" يدخل الانتخابات من باب تعزيز موقعه أكثر من ايمانه بأنه سيكون الرئيس الجزائري الجديد. واذا حقق نسبة مهمة من الأصوات في الدورة الأولى فهذا سيعني بلا شك ان المتنافسين في الدورة الثانية سيسعيان الى خطب وده وتلبيه الكثير من مطالبه.
والى جانب جاب الله, هناك قوة إسلامية ثانية مهمة في البلاد هي حركة مجتمع السلم بقيادة ابو جرة سلطاني. ويُعتقد ان هذه الحركة القوية خصوصاً في مناطق الوسط الجزائري المحيطة بالعاصمة, فقدت الكثير من وهجها بعد وفاة زعيمها محفوظ نحناح العام الماضي. كذلك يُعتقد أنها تسعى الى تكرار تجربة جاب الله من باب دخول الاقتراع لتعزيز موقعها السياسي أكثر من توقعها بأن مرشحها يملك أدنى حظ في الوصول الى الرئاسة.
وثمة قوة إسلامية ثالثة تملك بالطبع وهجاً إعلامياً قوياً لكنها تبدو مفككة أكثر من أي يوم آخر: الجبهة الإسلامية للإنقاذ (المحظورة). ويقول ناشط إسلامي قريب من الجبهة ان قادتها مختلفون على من سيدعمون في الانتخابات المقبلة. ويقود زعيمها الشيخ عباسي مدني تياراً يؤيد بوتفليقة, ربما بسبب الاجراءات التي اتخذها في حق قادتها مثل السماح للشيخ عباسي بمغادرة الجزائر للعلاج في الخارج والافراج عن الرجل الثاني في الجبهة الشيخ علي بن حاج العام الماضي. ويضيف هذا الناشط ان مدني سيصدر على الأرجح بياناً يؤيد فيه بوتفليقة, وهو أمر يُتوقع ان يتكرر ببيان ثان يصدره أمير الجيش الإسلامي للإنقاذ المنحل مدني مزراق. وبالطبع سيضم قادة آخرون من "الإنقاذ" أصواتهم في هذا الاتجاه.
لكن, كما يوضح الناشط ذاته, يبدو ان الشيخ علي بن حاج يرفض ان يؤيد بوتفليقة من باب ان الافراج عنه لم يكن "منّة من أحد" إذ خرج من السجن بـ"قوة القانون" مع انتهاء فترة سجنه التي بدأت في منتصف العام 1991. ويزيد ان بن حاج يتجه الى تأييد بن فليس, ومعه عضو قيادي آخر في "الإنقاذ" هو كمال قمازي.
الديموقراطيون
وإضافة الى التيارين الوطني والإسلامي, ثمة تيار ثالث هو التيار الديموقراطي القوي بحكم ارتباطه بمؤسسات صنع القرار والضعيف من حيث تمثيله الشعبي. ويقف هذا التيار في الإجمال حالياً في خانة معارضي الرئيس بوتفليقة, ربما بسبب سياسته في المصالحة مع الإسلاميين. ويأخذ هؤلاء عليه ان المصالحة التي يسير فيها "تساوي بين الإرهابيين وضحاياهم" وتسمح لـ"القتلة" بالعيش حياة طبيعية في ظل حصانة منحها لهم عفو رئاسي أصدره بوتفليقة بموجب قانون الوئام المدني. ويشارك كثير من أصحاب هذا التيار في تحركات تؤيد بن فليس في صراعه مع بوتفليقة.
وهناك من يضع تيارات سياسية بربرية في خانة أصحاب هذا التيار مثل التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية بزعامة سعيد سعدي, إضافة الى بعض أطراف جبهة القوى الاشتراكية بزعامة الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد. لكن ديموقراطية الأخير تختلف عن ديموقراطية أصحاب هذا التيار, من خلال دعم آيت أحمد سياسة الانفتاح على الإسلاميين المعتدلين وهجومه على أركان الحكم وعلى رأسهم المؤسسة العسكرية. وتشير أحداث منطقة القبائل الى ان حزبي سعدي وآيت أحمد فقدا القدرة على تحريك الشارع البربري الذي صارت تديره لجان شعبية (العروش) تتفاوض معها الحكومة (وليس مع الأحزاب القبائلية) لحل مطالب السكان.
المؤسسة العسكرية
وفي ظل هذه الصورة, يبدو الرئيس بوتفليقة الأوفر حظاً بتولي الرئاسة خمس سنوات جديدة. لكن ما هي نقاط ضعفه ونقاط قوته؟
لعل من نقاط القوة الأساسية انه رئيس الجمهورية الحالي ويملك بحكم موقعه القدرة على التأثير في الرأي العام المحلي. وتكفي متابعة نشرات الأخبار في التلفزيون الجزائري مساء كل يوم لمعرفة كيف يقوم رئيس الجمهورية بما يمكن ان يطلق عليه حملة انتخابية مسبقة. فهو يقوم يومياً بجولات على ولايات البلاد, متفقداً مشاريع لتحريك عجلة الاقتصاد فيها, وموزعاً كميات من الأموال على البلديات للقيام بمشاريع حيوية للسكان. ويقول معارضون لرئيس الجمهورية ان تصرفه هذا يدخل في خانة التأثير في أصوات الناخبين, لكن مؤيديه يؤكدون ان الرئيس يقوم بترجمة لبرنامجه الذي يعد بتحريك عجلة الاقتصاد, وان الأموال التي يضخها في الولايات لا تذهب الى أفراد بل الى مشاريع يستفيد منها المواطنون. ويساعده في هذا الأمر ان خزينة الدولة حققت فائضاً ضخماً بفعل ارتفاع عائدات البلاد من العملة الصعبة من جراء مبيعات النفط والغاز.
ومن نقاط القوة الأخرى لبوتفليقة انه يُمسك بزمام الإدارة في شكل كامل. فهو يعتمد خصوصاً على وزيري الخارجية بلخادم والداخلية زرهوني, وكذلك وزير العدل الطيب بلعيز, ويُضاف اليهم ولاء الولاة اليه بحكم انهم معيّنون منه. ويقول معارضوه ان إمساكه بهذه المفاصل الأساسية في البلاد تفتح الباب أمام إمكان حصول تزوير لمصلحته, وهو أمر يرفضه مؤيدوه.
كذلك من نقاط قوته انه صاحب خبرة طويلة في المجال الديبلوماسي من خلال توليه وزارة الخارجية في الستينات والسبعينات, وهي خبرة يبدو انه استثمرها في جهوده لإعادة الجزائر الى موقعها في الساحة الدولية التي غابت عنها بفعل العنف الذي عرفته البلاد بعد الغاء المسار الانتخابي في 1992. وهو يحظى أيضاً بغطاء دولي وعربي بحكم علاقاته مع قادة دول عربية وأجنبية. لكن منتقدي الرئيس الجزائري يشيرون الى ان علاقاته الخارجية هذه لم تساعد الجزائر في كسر حدة الخلافات مع المغرب (الذي منعه من تحقيق "انجاز" عقد أول قمة لاتحاد المغرب العربي منذ 1995) ومع فرنسا (التي أيدت حلاً لقضية الصحراء أقرب الى موقف الرباط).
أما نقاط ضعفه فربما تنحصر في إثنتين: الأولى طريقة تسييره شؤون البلد من خلال حصر كثير من القرارات في شخصه, والثانية علاقته السيئة ببعض أركان المؤسسة العسكرية. ويرد مؤيدوه على المأخذ الأول بالقول انه لم يخف في يوم من الأيام انه يريد نظاماً رئاسياً قوياً تكون فيه الصلاحيات مركّزة في رئاسة الجمهورية. ويقول مصدر قريب من بوتفليقة ان رئيس الحكومة السابق أحمد بن بيتور "لم يفهم هذه النقطة فاصطدم برئيس الجمهورية الذي تعامل معه بوصفه وزيراً أول, فأدى الاصطدام الى رحيل بن بيتور من الحكومة".
أما عن النقطة الثانية فيقول مؤيدو بوتفليقة ان علاقته ليست سيئة مع المؤسسة ككل بل مع بعض أقطابها. ويضيف هؤلاء ان الجيش دعم بوتفليقة عام 1999 لأنه اعتقد ان بوتفليقة يمكن ان يحسّن صورة الجزائر في الخارج بفعل خبرته الديبلوماسية, ويرد على الاتهامات التي توجّه في بعض المحافل الدولية الى المؤسسة العسكرية بالتورط في عمليات قتل وخطف واسعة النطاق. ويضيفون ان رئيس الجمهورية استاء منذ البداية من تصرف بعض قادة المؤسسة العسكرية معه, وان اشتبه في ان هؤلاء كانوا وراء تسريب معلومات عن ان الانتخابات ستزوّر لمصلحته مما دفع المرشحين المنافسين له الى الانسحاب, فوصل الى الرئاسة ضعيفاً على رغم تأكده انه الأقوى بينهم.
لكن معارضي رئيس الجمهورية يؤكدون انه كان البادئ بـ"فتح النار" على الجيش, إذ طلب أمام زعيم أجنبي بارز "مساعدته" ضد المؤسسة العسكرية, وهو أمر رفضه الرئيس الأجنبي قائلاً ان بلاده لا تتدخل في الخلافات الداخلية الجزائرية. ووصل هذا الكلام بالطبع الى أذان المؤسسة العسكرية التي كانت بدأت للتو "تكتشف" ان بوتفليقة يتصرف وكأنها غير موجودة. وكان من بين الأمور التي أثارت حفيظة كبار قادة الجيش انهم سمعوا من رئيس الجمهورية في لقاء حضروه على شرف ضيف عربي, انه يعتزم تنظيم استفتاء على قانون الوئام المدني, وكانت تلك المرة الأولى التي يعرفون فيها بالأمر, ما أثار غضبهم.
وتزامن ذلك مع تصرفات توحي بعدم ثقة رئيس الجمهورية بالمؤسسة العسكرية. إذ بادر الى تعيين أقرباء له في مناصب حساسة في الرئاسة, وتغيير المسؤول الأول عن حمايته في الرئاسة, وهو أمر دافع عنه سياسي قريب منه قائلاً ان من حقه "حماية نفسه ... من حارس يمد يده الى جيبه ولا يُعرف إذا كان يريد إخراج منديل أم مسدس".
لكن بوتفليقة لم تخرج منه بتاتاً كلمة علناً تنتقد الجيش, بل حرص دائماً على الإشادة به وتضحيات أفراده.
غير ان بعض قادة المؤسسة, كما يقول سياسي معارض لرئيس الجمهورية, كانوا يخشون ان يلجأ بوتفليقة الى التخلص منهم, وانهم نبّهوه الى ذلك. وقال هذا السياسي ان الجيش لجأ في البداية الى المستشار في الرئاسة العربي بلخير الذي كان أول من أقنع المؤسسة العسكرية بأن بوتفليقة هو الرجل المناسب لخلافة الرئيس اليمين زروال الذي استقال مبكراً من منصبه (رفض اتفاقاً سرياً توصلت اليه الاستخبارات الجزائرية مع الجيش الإسلامي للإنقاذ, قائلاً انه أعلن في 1996 "ان ملف الإنقاذ أغلق" ولن يفتحه مجدداً). ويقول هذا السياسي ان "بلخير كان واقعاً بين طرفين متنازعين: زوجته التي لا يستطيع اغضابها وأمه التي لا يمكنه التخلي عنها". وفي النهاية بدا انه فشل في فك الاشتباك بين الجانبين, فابتعد او آُبعد لمصلحة قريبين لبوتفليقة.
ويقول ديبلوماسي في الجزائر ان خلاف رئيس الجمهورية مع أحد قادة الجيش البارزين ليس سراً, وان الرجلين لا يتحادثان منذ فترة. ويعلّق مصدر جزائري على ذلك قائلاً ان الجيش اعطى تعهداً لبوتفليقة عندما وصل الى رئاسة الجمهورية ولا يزال ملتزماً به, وهذا الالتزام لا ينتهي سوى بعد انتهاء ولايته (استدعاء الهيئة الناخبة يحوّله من رئيس الى رئيس مرشّح). ويضيف ان الموقف الحقيقي للجيش ربما لن يصدر حتى ذلك التاريخ, وربما لن يصدر أبداً. ويقول ان حياد الجيش لا يعني انه لن يتدخل في حال رأى ان الأمور تسير في شكل يهدد أركان الدولة.
ويقول وزير الإعلام السابق في عهد بوتفليقة السيد محيي الدين عميمور (عضو مجلس الأمة) ان بوتفليقة سيفوز في الانتخابات المقبلة وان فوزه "سيحقق نقلة نوعية تُلغي وجود المتطفلين في الساحة السياسية الذين يعملون على تدخل الجيش ويعزز سياسة المصالحة".
ويرى مصدر سياسي آخر محسوب على بوتفليقة ان فوزه في الانتخابات المقبلة سيسمح له بأن يتخذ "قرارات صعبة وخطيرة" بمستوى إجراء تغييرات واسعة في المؤسسة العسكرية, وهو أمر لم يلجأ اليه رئيس الجمهورية منذ وصوله الى سدة الحكم. ويقول ان بوتفليقة سيعيّن على الأرجح بعد انتخابه وزيراً مدنياً للدفاع, وهو مطلب يرضي المؤسسة العسكرية التي اشتكت في السابق من ان ليس لديها ممثل يدافع عنها في اجتماعات الحكومة. لكن سياسياً جزائرياً يعلّق على ذلك قائلاً انه يخشى ان يختار بوتفليقة شخصية لا تثق بها المؤسسة العسكرية فيؤدي ذلك الى صراع جديد بين الطرفين فتكون الولاية الجديدة لبوتفليقة نسخة طبق الأصل عن ولايته في السنوات الخمس السابقة.
* غداً: عبدالعزيز بلخادم: حياد الجيش

No comments: