BELOW IS A PAPER PRESENTED BY CAMILLE TAWIL ON THE LIFG'S MURAJAAT DURING A CONFERENCE IN LONDON, JULY 2010.
في ما يأتي نص ورقة قدمتها في ندون في ليبيا عن تجربة الجماعة الاسلامية المقاتلة مع الحكم الليبي، من الصدام والمواجهة، فالمهادنة، وانتهاء بالمصالحة، أو بالأحرى بداية المصالحة التي ما زالت في بداية الطريق بالتأكيد.
المقـــدمــة
في مثل هذه الأيام من العام الماضي، أصدر قادة "الجماعة الاسلامية المقاتلة" المسجونون في ليبيا (عبد الحكيم الخويلدي بالحاج سامي مصطفى الساعدي عبد الوهاب محمد قايد مفتاح المبروك الذوادي خالد محمد الشريف مصطفى الصيد قنيفيد) مراجعات بعنوان "دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس" نأوا بأنفسهم فيها عن انتهاج أعمال العنف وسيلة لتغيير الأنظمة، وأوضحوا فيها نظرتهم الخاصة بـ "الجهاد" محاولين وضع ضوابط شرعية له لا تجيز كثيراً من العمليات التي تقوم بها جماعات توصف بأنها جهادية – واعتقد أن المقصود هنا بلا شك هو تنظيم القاعدة وفروعه – الجماعات المتأثرة بفكره.
لا تقدّم هذه الورقة محاولة لشرح أبرز ما في المراجعات. أعتقدك أن معظم الحاضرين – إن لم يكونوا جميعهم - قد اطلعوا عليها وكوّنوا رأيهم فيها. هذه الورقة في الحقيقة هي مجرّد محاولة لوضع المراجعات في إطارها الزمني الحالي كي يمكن تحديد أهم ما أنجزته على صعيد العلاقة – المصالحة إذا شئتم - بين الإسلاميين الذين يصفون أنفسهم بأنهم جهاديون وبين سلطات بلادهم التي دأبت على وصفهم بالمنافقين. وأيضاً كي تمكن تحديد أبرز العقبات التي ما زالت تعترض استكمال تصحيح هذه العلاقة بهدف إيجاد نوع من الثقة بين الطرفين. فكلاهما يمثّل في نهاية المطاف جزءاً من مجتمعه وعليه أن يجد طريقة كي يتعايش مع الجزء المقابل – المخالف له، لا أن يلغيه. فمحاولة إلغائه أو تغييره بالقوة، كما نعرف من تجربة تسعينات القرن الماضي في أكثر من دولة عربية، جرّت الكثير من الويلات على شعوب هذه الدول وأعاقت مسيرة تقدمها ونموها لسنوات طويلة.
البـدايــة
في البدء، لا بد من وضع مراجعات الجماعة المقاتلة في إطارها الزمني، لأن ذلك سيساعد بلا شك في تسليط الضوء على نقاط قوتها أو ضعفها، ويمكن أن يساعد في فهم سبب صدورها.
صدرت المراجعات عن قادة جماعة نجحت أجهزة الأمن الليبية في توجيه ضربة شديدة إليها في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي. كانت المقاتلة التي ظهرت في بداية التسعينات في مناطق الحدود الأفغانية – الباكستانية على يد ليبيين شاركوا في الجهاد الأفغاني، تسعى منذ نشأتها إلى تكوين خلايا داخل ليبيا تتولى - عندما يصدر الأمر بذلك وبعد أن تكتمل استعداداتها – إطلاق ما كانت المقاتلة تعتقد أنه سيكون جهاداً لقلب نظام العقيد معمر القذافي. لكن الظروف لم تسعف المقاتلة آنذاك. غرق جزء من جهدها في الجزائر حيث كانت جماعات مسلحة تسعى إلى قلب نظام الحكم بعدما ألغى الحكم الجزائري الانتخابات التي كان الإسلاميون – الجبهة الإسلامية للانقاذ – على وشك تحقيق فوز ساحق فيها في مطلع العام 1992. اعتقدت المقاتلة بلا شك أن انتقالها الى الجزائر للمساهمة في ما اعتبرته جهاداً هناك يمكن أن يساعدها في تحقيق غايتها في ليبيا المجاورة – أي قلب نظام حكم العقيد القذافي. الانتقال الى الجزائر كان بمثابة الوثبة في المفهوم العسكري، كما يقول الأخ نعمان بن عثمان. لو بقي عناصر المقاتلة في أفغانستان يتدربون لما استطاعوا تغيير الحكم في ليبيا. لذلك فإن الانتقال الى الجزائر كان سيضع عناصر المقاتلة على الحدود مع ليبيا – هذه هي الوثبة في المفهوم العسكري. لكن الانتقال إلى الجزائر لم يحقق للمقاتلة هدفها المنشود، بل غرقت هناك في مشاكل مع الجماعة التي ذهب الليبيون لمساندة جهادها: الجماعة الاسلامية المسلحة. وما زاد الطين بلة للمقاتلة، أن غرقها في المستنقع الجزائري تزامن مع اضطرارها إلى دخول المعركة ضد الحكم الليبي قبل اكتمال استعداداتها له في صيف العام 1995. فأعلنت المقاتلة عن نفسها في اكتوبر من ذلك العام وبدأت ما اعتبرته جهاداً ضد الحكم.
لم تمر شهور على بدء المواجهات حتى أيقنت المقاتلة أن كفّة المواجهة مع الحكم لا تميل لمصلحتها. إنكفأت إلى خارج ليبيا محاولة بقدر الإمكان تجنّب الدخول في مواجهة مباشرة مع أجهزة الأمن. بعدما أيقنت أن المواجهة العسكرية المباشرة ليست في مصلحتها، اعتقدت المقاتلة في مرحلة من المراحل، على ما يبدو، أن الوصول إلى العقيد القذافي نفسه يمكن أن يغيّر كفّة المواجهة. فرحيل قائد الثورة الليبية يمكن أن يخلق فراغاً في الدولة يؤدي بدوره إلى بلبلة تستتفيد منها الجماعة. لم يتحقق لها هذا، بعد محاولتين أو أكثر.
وبعد عجزها في هذا المجال أيضاً، بدأت المقاتلة عملية الانتقال مجدداً إلى أفغانستان التي كانت قد أصبحت معظم مناطقها – باستثناء أجزاء صغيرة من شمال البلاد - تحت سيطرة حركة طالبان. في فترة الانتقال إلى أفغانستان كانت المقاتلة قد قررت وقف عملياتها داخل ليبيا. في الحقيقة، كانت تعرف أن خلاياها قد تم تفكيكها إلى حد كبير، وأن عشرات من قادتها – وربما مئات – قد صاروا في السجون أو قُتلوا. قررت المقاتلة بالتالي أن عليها إعادة بناء نفسها، وهو الأمر الذي سعت إليه في مناطق طالبان في أفغانستان.
ربما تجدر الإشارة هنا إلى أن المقاتلة كانت حتى ذلك التاريخ لم تغيّر موقفها بعد علناً من نظام الحكم في ليبيا. لم تصدر مثلاً عن قادة الجماعة دراسات على نسق الدراسات التصحيحية لاحقاً تشرح سبب وقف العمليات داخل ليبيا – هل لأن هذا لا يجوز شرعاً، أم لأن الحكم الليبي ليس حكماً يستحق أن يُقاتل على أساس أنه مرتد أو لأنه من الطوائف الممتنعة عن تطبيق الشريعة الاسلامية وبالتالي يجوز قتاله على هذا الأساس. لم تعلن المقاتلة آنذاك مبررات شرعية لوقف عملها المسلح داخل ليبيا.
وربما من الجدير الإشارة هنا أيضاً إلى أن المقاتلة اتخذت آنذاك موقفاً سلبياً من التحوّل الذي كانت الساحة الجهادية عموماً قد بدأت تشهده في أواخر حقبة التسعينات. قادت ذلك التحوّل الجماعة الإسلامية المصرية، كبرى الجماعات الجهادية في مصر، التي كانت قد أطلقت منذ العام 1997 مبادرة سلمية أوقفت فيها المواجهات مع قوات الأمن المصرية. الجماعة المصرية آنذاك كانت السباقة في وقف العمل المسلح. وهي لم تكتف بإعلان وقف العمليات، بل لجأت إلى تقديم تأصيلات شرعية لموقفها الجديد شكّل صدمة لكثيرين من أنصارها. فبعد سنوات طويلة من قيادة هذه الجماعة حرباً ضروساً ضد الحكم المصري الذي كانت تصفه بالمرتد، اكتشف قادة هذه الجماعة أنهم كانوا على خطأ في ذلك وأن النظام ليس مرتداً وأن استخدام العنف لقلبه لا يجوز شرعاً. حاول بعض قادة الجماعة خارج مصر الطعن في المبادرة السلمية من خلال القول إن القائمين بها مسجونون – أو أسرى – وبالتالي فإنهم تحت إكراه للوصول إلى قرارهم هذا (كلكم يذكر الجدل مع الشيخ رفاعي طه ومذبحة الأقصر والسباق لاستمالة الشيخ عمر عبدالرحمن لدعم المبادرة أو لرفضها). في النهاية صمد قادة الجماعة الاسلامية المسجونون في موقفهم، وأصدروا دراسات تؤصّل لمنهجهم الجديد الرافض لاستخدام العنف.
وما حصل في مصر تكرر إلى حد ما في الجزائر. في النصف الثاني من التسعينات، كانت أجهزة الأمن الجزائرية استطاعت - كأجهزة الأمن المصرية وكأجهزة الأمن الليبية - إلحاق هزيمة كبيرة بالمسلحين الإسلاميين. ولكن في وقت إنكفأ الجهاديون الليبيون المهزومون عسكرياً إلى أفغانستان، وقرر جزء كبير من الجهاديين المصريين إطلاق مبادرة سلمية، بادر جزء من الجهاديين الجزائريين – تحديداً الجيش الإسلامي للإنقاذ – إلى فتح قناة اتصال مع الأمن الجزائري انتهت إلى إعلان وقف لإطلاق النار تطور إلى إلقاء السلاح في مقابل عفو تُصدره السلطات الجزائرية عن المسلحين الإسلاميين. لم يُصدر هؤلاء الإسلاميون الجزائريون مراجعات فقهية تبرر سبب تخليهم عن حمل السلاح (ربما بسبب خلافات في ما بينهم – القيادة السياسية والقيادة المسلحة)، لكن كان واضحاً أن أحد أسباب القاء السلاح كان مرتبطاً بتصرفات قام بها جزء من الجهاديين أو نُسبت إليهم – المذابح وعمليات القتل الأعمى التي تبنتها الجماعة المسلحة.
في أي حال، استمرت المقاتلة آنذاك في إعادة بناء نفسها في أفغانستان، وهي رفضت أكثر من محاولة في تلك الحقبة الإنضمام إلى مشروع الجهاد العالمي الذي كان يخطط لإطلاقه زعيم القاعدة أسامة بن لادن. لكن المقاتلة لم تتمكن من النجاة من حرب بن لادن ضد الولايات المتحدة ولا من رد الولايات المتحدة عليه بحربها العالمية ضد الإرهاب في نهاية العام 2001. فوجئت المقاتلة كما يبدو بحجم الرد الأميركي على ما سمّته القاعدة الغزوة ضد نيويورك وواشنطن. وعندما حاولت الفرار من أفغانستان في وجه الهجمة الأميركية، تشتت قادتها وعناصرها في أكثر من دولة. لكن أجهزة الاستخبارات المختلفة كانت تلاحقهم بلا هوادة، ونجحت في الوصول إليهم واحداً تلو الآخر – وعلى رأسهم أمير المقاتلة أبو عبدالله الصادق ومسؤولها الشرعي أبو المنذر الساعدي - اعتُقلا في تايلاندا والصين في العام 2004 وسُلّما إلى ليبيا. وجد قادة المقاتلة أن تنظيمهم الذي كان ما زال يحاول إعادة بناء نفسه بعد انهيار الجهاد في ليبيا في التسعينات، قد تعرّض لضربة أكثر شدة. القادة معتقلون في السجون الليبية، وبعضهم في سجون دول أجنبية – من بينها بريطانيا. عدد قليل جداً من القادة الذين نجوا من الحرب ضد الإرهاب بقي في أفغانستان وبعض الدول المحيطة بها.
وهكذا بدا في العام 2005 أن الحكم الليبي قد أنجز تفكيك المقاتلة بعدما كان قد هزمها عسكرياً في أواخر التسعينات.
سيف الإسلام
ربما لم تتوقع قيادة المقاتلة ما حصل معها في تلك الحقبة. فبدل أن يتم تجاهلها على أساس أنها صارت شيئاً من الماضي (SPENT FORCE)، لجأت السلطات الليبية إلى فتح حوار معها في السجن. في الحقيقة، كان الدافع الرئيسي وراء الحوار إقتناع نجل العقيد القذافي الدكتور سيف الإسلام بأن إقفال ملفات الماضي داخلياً وخارجياً يجب أن يتضمن حلاً لقضية المقاتلة. لم يتول الدكتور سيف الإسلام يوماً منصباً في هرمية الحكم الليبي، لكنه كان عنصراً رئيسياً منذ البدء في عمليات إغلاق الملفات المفتوحة لليبيا في الخارج – لوكربي، يوتا، ملهى لا بيل، قضية الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني، من بين قضايا أخرى عديدة. وبالموازاة مع ذلك، سعى الدكتور سيف أيضاً إلى تسوية ملفات عديدة شائكة داخل ليبيا نفسها، من بينها ملف جماعة الإخوان المسلمين. لذلك لم يكن مستغرباً أن يحاول أيضاً أن يحل ملف المقاتلة، وهو الأمر الذي تم من خلال المؤسسة التي يقودها – مؤسسة القذافي للتنمية – وبالتعاون مع الدكتور علي الصلابي والأخ نعمان بن عثمان هنا في لندن.
لم يكن ملف المقاتلة ملفاً سهلاً. فهو في الحقيقة ملف شائك من جوانب عديدة.
فالجماعة جماعة جهادية قامت ليس فقط بعمليات قتل وهجمات داخل ليبيا، بل سعت إلى قتل العقيد القذافي نفسه. كما أن لهذه الجماعة أدبيات تُبرر شرعاً قلب نظام الحكم في ليبيا. ولهذه الجماعة أيضاً علاقات متينة قديمة مع تنظيم القاعدة, كما أن لأجهزة الاستخبارات العالمية المتحالفة في إطار الحرب على الارهاب تملك معلومات عن علاقات بين ناشطين في المقاتلة وآخرين في القاعدة. ولم يكن سرّاً أيضاً أن عدداً من ناشطي المقاتلة كانوا يقاتلون جنباً إلى جنب مع القاعدة ضد القوات الأميركية في أفغانستان.
هذا من جهة.
من جهة ثانية، لم يكن الدكتور سيف الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يبت في ملف الحوار مع المقاتلة. فهناك أجهزة الأمن المختلفة التي تسعى إلى تحقيق غاياتها – إغلاق ملفات أمنية وجمع معلومات معيّنة من نشاطات تعتبرها الأجهزة تمس أمن البلد والنظام. وهناك قائد الثورة الليبية الذي ربما لم ينس أن المقاتلة كانت قد حاولت أكثر من مرة اغتياله. وهناك أطراف أخرى في الدولة – الثوريين الذين تصدوا للمقاتلة في التسعينات – لا شك أن هذه الأطراف كانت حذرة من أي تقارب مع عدوها اللدود – أي الجهاديين – وتعتبر أن هؤلاء لا ضرورة للمصالحة معهم لأنه لا يوثق بهم ولأنهم مهزومون عسكرياً لا حاجة للتقرب إليهم. ولا شك أيضاً أن أجهزة أمنية خارجية كانت بدورها ممتعضة من أي تقارب مع المقاتلة، وبعثت بإشارات بهذا المعني إلى الحكم الليبي.
لكن سيف الإسلام، صاحب الطموحات السياسية في بلاده وصاحب المشروع التغييري الجذري الذي يسميه "ليبيا الغد"، لم يسمح لكل هذه العقبات بأن تعترض طريق الوصول الى الغاية التي يرجوها من الحوار مع المقاتلة. وكما يذكر الأخ نعمان، فقد كان الدكتور سيف محورياً في تذليل كل العقبات التي اعترضت الحوار، بما في ذلك إنجاز قادة الجماعة مراجعاتهم الفقهية – الدراسات التصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس – والتي تلاها في مارس هذا العام الافراج عن ثلاثة من قادة المقاتلة من أصل ستة ساهموا في إعداد المراجعات – من بين عشرات من أفراد الجماعة والجهاديين الآخرين.
نجاح أم فشل؟
في الختام، لا بد من إبداء بعض الملاحظات على المراجعات نفسها، وهل يمكن أن تحقق غايتها في مصالحة الجهاديين مع أنظمة بلادهم، وما هي مخاطر تعرّض هذه المحاولة للانتكاسة.
أولاً، لا شك أن المراجعات تتميّز بقوة التأصيل الشرعي الذي لم يسمح على ما يبدو حتى لمؤيدي تنظيم القاعدة بإيجاد ثغرات فقهية فيها. يختلف هؤلاء بلا شك مع الخلاصة التي وصل إليها قادة المقاتلة – في خصوص عدم جواز حمل السلاح ضد الأنظمة – لكنهم، بحسب علمي - لم يصدروا حتى الآن دراسات تفنّد الدراسات التصحيحية. كما أن الملاحظ أن القاعدة نفسها لم تلجأ إلى نقد الدراسات التصحيحية، على رغم أنها فعلت ذلك في السابق عندما أصدر الدكتور فضل وثيقته لترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم. الأرجح أن القاعدة إما أنها قررت أن لا تدخل في سجال مع قادة المقاتلة، وإما أنها لم تجد ثغرة فقهية في مراجعات هؤلاء يمكن النفاذ منها للطعن في ما خلصوا إليه. في النهاية، إنطلق قادة المقاتلة من نفس المنطلقات الفقهية السلفية – الآيات والنصوص الشرعية – التي ينطلق منها قادة القاعدة، لكنهم انتهوا إلى نهايات مغايرة تماماً.
ثانياً، استطاع أصحاب المراجعات فتح ثغرة في داخل الحكم الليبي تسمح بالبناء عليها من أجل بناء الثقة بين الطرفين. لا شك أن السلطات الليبية قامت بمجازفة عندما أفرجت عن عشرات الجهاديين إلى جانب قادة المقاتلة في فبراير الماضي. لكن الدكتور سيف يثق على ما يبدو بأن قادة المقاتلة يلتزمون ما يقولونه، وبما أنهم قالوا بعدم جواز قتال الحكم الليبي فإنهم لن يفعلوا ذلك ولن يخونوا الأمانة أو العهد – الذي تكلم قادة المقاتلة كثيراً عنه في مراجعاتهم. لكن الخطر يبقى هنا في حال قيام بعض المفرج عنهم بأعمال مخلّة بالأمن، سواء في داخل ليبيا أو خارجها. كما أن هناك خطراً آخر قد ينعكس على المقاتلة وهو الخطر المتمثل في قيام جهاديين – من القاعدة أو من المتأثرين بأفكارها – بعمل مسلح ما في داخل ليبيا، سواء ضد الحكومة أو منشآت غربية. فماذا سيكون رد فعل الحكم الليبي في هذه الحال؟
ثالثاً، إحدى مصادر الإزعاج الأساسية أمام مراجعات المقاتلة أنها – على رغم تأصيلاتها الشرعية المحكمة – لم تصدر سوى بعد اعتقال قادة الجماعة وتفكيكها. هي ليست فريدة في ذلك، فكل الجماعات الجهادية التي راجعت أفكارها في العالم العربي لم تفعل ذلك سوى وهي في السجون وبعدما مُنيت بالهزيمة على يد أجهزة الأمن. الجماعة الاسلامية المصرية، الدكتور فضل، بعض الشيوخ الذين كانوا يؤيدون تنظيم القاعدة في السعودية، بعض شيوخ السلفية الجهادية في المغرب، وبعض قادة الجماعات المسلحة في الجزائر. جميع هؤلاء تراجعوا عن اعتماد العنف وسيلة للتغير بعدما صاروا في السجون، وهو أمر يدفع إلى التساؤل لماذا لم يقم هؤلاء بمراجعاتهم وهم أحرار طلقاء؟ هذا لا يعني أن أصحاب المراجعات المختلفة ليسوا مقتنعين بما كتبوه. لا شك أنهم لم يقولوا ما قالوه سوى عن اقتناع، لكن ذلك لا يمنع من طرح التساؤل لماذا لم يفعلوا ذلك وهم في الحرية؟
رابعاً، تبقى الضمانة الأساسية لقادة الجماعة المقاتلة في تعاملهم مع الحكم الليبي هي شخص الدكتور سيف الإسلام. لكن ذلك يحمل في طياته مخاطر مختلفة. فالدكتور سيف ليس مسؤولاً في الحكم، ولا يتكلم دائماً باسم الدولة، كما أن له معارضين كثراً في أكثر من موقع في الدولة. وإذا كان قد استطاع حتى الآن تنفيذ ما يعد به، فإن ذلك قد لا يكون مضموناً في المستقبل، خصوصاً في حال حصول تطورات أمنية معينة تُنسب إلى المقاتلة أو بعض الأعضاء السابقين أو المحسوبين عليها. وكما هو معروف، فإن عملاً من هذا النوع قد يُنسب إلى أفراد المقاتلة من دون أن يكون القادة المفرج عنهم على معرفة به – كأن يقوم به أعضاء في المقاتلة انضموا إلى القاعدة، أو اعضاء تم التلاعب بهم من خلال عمل استخباراتي (manipulation).
لكن في المقابل لا بد من تسجيل أن سيف الإسلام أثبت حتى الآن أنه رجل يحترم ما يقوله، وإذا ما استطاعت المقاتلة أن تكسب ثقته فإنها تكون قد تمكنت من فتح صفحة جديدة بيضاء مع الحكم الليبي، خصوصاً في حال تمكّن الدكتور سيف من تسلّم مسؤوليات في الحكم تسمح له بتنفيذ خططه الخاصة بمشروع ليبيا الغد، وإذا ما استطاع قادة المقاتلة منع حصول أي عمل عنف يهدد الاستقرار في ليبيا.
خامساً، ثمة مشكلة أساسية تتعلق بالنهاية التي يمكن أن تصل إليها الحوارات بين قادة المقاتلة والحكم الليبي. أعتقد أن قادة المقاتلة على رغم أنهم وافقوا على حل تنظيمهم والاعتذار من العقيد القذافي على تشكيل الجماعة أصلاً – إلا أن هؤلاء القادة يأملون بلا شك أن الحوار بينهم وبين الحكم الليبي سيؤدي في نهاية المطاف الى فتح المجال أمام الإسلاميين – وغيرهم من أطراف المجتمع الليبي – كي يشاركوا في الحياة السياسية في البلاد ويحاولوا سلماً هذه المرة نشر أفكارهم بين عامة الشعب. هل يمكن أن يقبل الحكم الليبي بمثل هذا السيناريو، علماً أنه لا يسمح اصلاً بإنشاء أحزاب سياسية؟ لا يبدو ذلك خياراً محتملاً في الفترة القريبة المقبلة، لكن في حال حصول تغييرات في سدة القيادة في ليبيا – خلال السنوات المقبلة – فإن ذلك لا يبدو خياراً غير قابل للتحقق، خصوصاً في حال تمكن الدكتور سيف الإسلام من تنفيذ مشروعه الطموح بتطبيق نظام ديموقراطي تعددي حقيقي في ليبيا.
لا شك أن قادة المقاتلة يتمنون تحقق هذا السيناريو، لكن الأمور ما زالت في بداية الطريق بالتأكيد. وفي اعتقادي أن تحقيق ذلك سيكون ممكناً بالتأكيد، لكنه لن يحصل بين عشية وضحاها. أعتقد أن الدكتور سيف يعرف أن لا سبيل للإصلاح الحقيقي سوى من خلال فتح المجال أمام العمل السياسي التعددي بما في ذلك أمام الإسلاميين، كما أنني أعتقد أن الإسلاميين الجهاديين أنفسهم قد تعلموا من أخطاء الماضي وباتوا يعرفون اليوم أن حمل السلاح لا يؤدي بالضرورة إلى تحقيق أهدافهم، خصوصاً إذا ما كان الحكم راغباً في السماح بدرجة معينة من الحرية التعبير لمعارضيه، وبينهم الإسلاميون.
* قدمت هذه الورقة في الندوة التي نظمتها صحيفة "أخبار ليبيا" الإلكترونية في لندن بتاريخ 11 يوليو 2010 تحت عنوان: "الحوار لمواجهة السلاح"
No comments:
Post a Comment