«الحياة» تحاور أربعة من أبرز قادتها عن سنوات الرعب في الجزائر (الحلقة الأولى) ... قادة «الجماعة السلفية»: لهذه الأسباب قاتلنا ولهذه الأسباب ألقينا السلاح
الجزائر - كميل الطويل الحياة - 14/03/09//
«تغيرت تصرّفات النظام، فتغيرنا نحن أيضاً». بهذه العبارة يلخّص حسان حطاب، مؤسس «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» التي تحوّلت الآن إلى الفرع المغاربي لتنظيم «القاعدة»، مسيرته الطويلة من الصراع ضد الحكم الجزائري على مدى سنوات التسعينات وكيف تحوّل من قتاله إلى مهادنته فمصالحته.كان عليّ أن أنتظر أكثر من عشر سنوات للقاء هذا الرجل الذي أجريت معه حواره الإعلامي الأول بـ «الواسطة» (عبر ممثليه في لندن) في العام 1998. لكن حطّاب اليوم ليس حطاب الذي أجاب عن أسئلتي قبل عشر سنوات ونيّف. لقد تغيّر. كان حطّاب آنذاك خارجاً لتوه من صراع مرير مع قيادة «الجماعة الإسلامية المسلحة»، إحدى أكثر الجماعات دموية في تاريخ الجزائر المعاصر. تحدى حطاب (المعروف بـ«أبي حمزة») أميرها عنتر زوابري وخرج عن طاعته وانشق عنه ليؤسس «الجماعة السلفية للدعوة والقتال». انشق حطاب عن «الجماعة المسلحة» آنذاك ليس لأنه لم يعد مقتنعاً بقتال الحكم الجزائري، بل لأنه وجد نفسه غير قادر على وقف «الانحدار إلى الهاوية» الذي كانت «الجماعة»، أو «الجيا» بالتعبير الجزائري، تسير فيه خلال عهدي أميريها جمال زيتوني (أبو عبدالرحمن أمين) وخليفته عنتر زوابري (أبو طلحة). عندما راسلته في العام 1998، عبر ممثليه في لندن، أرسل لي أجوبة كشف مضمونها بوضوح أن حطّاب ليس فقط غير مؤمن بأن السلام ممكن مع الحكم الجزائري بل هو يعتبر أن الذي يُهادنون النظام منخدعون وأن سلامهم ليس سوى «استسلام». سمّى بالإسم قادة «الجيش الإسلامي للإنقاذ» الذي كان أميره مدني مزراق قد أعلن هدنة لعملياته في صيف 1997 قبل أن يدخل في إطار سلام تضمن عفواً عن عناصر تنظيمه وعناصر الجماعات الأخرى التي وافقت مثله على القاء السلاح.التقيت حطاب في الجزائر هذه المرة. فقد لحق، متأخراً، بمسيرة مدني مزراق، وألقى السلاح ونزل من الجبل وسلّم نفسه إلى السلطات في أيلول (سبتمبر) 2007. التقيته في إقامة سرية تحرسها أجهزة الأمن قرب العاصمة الجزائرية وبعد الحصول على إذن بإجراء مقابلته الصحافية الأولى «منذ نزوله من الجبل». لم يكن حطاب لوحده. كان معه ثلاثة آخرون من القادة الكبار في «الجماعة السلفية» ممن اقتنعوا أيضاً بأنه لم يعد هناك من مبرر لقتال الحكم الجزائري وأن الأفضل لهم ولعائلاتهم وللجزائر أن ينزلوا من الجبل ويلتحقوا بمسعى السلم والمصالحة الذي يقوده الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة. إضافة إلى حطاب، شارك في الحوارات كل من عبدالقادر بن مسعود المكنى مصعب أبو داوود، الأمير السابق للمنطقة التاسعة الصحراوية في «الجماعة السلفية» (سلّم نفسه في آب/أغسطس 2007)، وأبو عمر عبدالبر رئيس اللجنة الإعلامية في الجماعة ذاتها، وأبو زكريا رئيس اللجنة الطبية. والأخيران من «الأعيان» في «الجماعة السلفية» (مجلس أهل الحل والعقد) وأعضاء مجلس الشورى.قدّم الأربعة روايتهم لطريقة نزولهم من الجبل ولماذا تغيّر اقتناعهم من محاربة الحكم الجزائري إلى مصالحته. كشف حطاب أنه لم يصعد إلى الجبل عن «اقتناع» مسبق بضرورة قتال النظام. صعد لأن النظام، كما قال، تصرّف بعنف ضد الإسلاميين على اختلاف مشاربهم بعد إلغاء الانتخابات التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في كانون الثاني (يناير) 1992. في الجبل، كما قال، حصل لديه اقتناع بأن هناك «مبررات شرعية» تحتّم قتال النظام. تحدث عن خلافاته مع أمراء «الجماعة الإسلامية المسلحة»، وكيف دخل في صراع مع جمال زيتوني الذي تولى الإمارة في صيف 1994، وصاغ بيان الخروج عليه في اليوم ذاته الذي قُتل فيه زيتوني على يد منشقين عن جماعته. روى قصة تأسيس «الجماعة السلفية»، وكيف بدأ يلمس تغييراً في «تصرفات» الحكم الجزائري مع تولي الرئيس بوتفليقة السلطة في 1999. كشف أيضاً أنه بدأ في الألفية الجديدة نوعاً من «جس النبض» داخل جماعته لمعرفة مدى استعدادها لوقف القتال والالتحاق بالمصالحة. لم يكن الأمر هيناً بالتأكيد، إذ أنه يروي أن بعض القادة كانوا يُساندون موقفه في السر لكنهم يترددون في الجهر برأيهم علناً. فقرر «التنحي» طوعاً من إمارة تنظيمه في 2003 كي تكون له «حرية الحركة» لجمع مؤيدي مسعاه لمصالحة النظام. وبعد سنتين من التنحي، «اعتزل» حطّاب عن الجماعة كلياً في 2005، واتخذ موقعاً مستقلاً في الجبل قريباً من مواقع لـ «الجماعة السلفية» التي كانت قيادتها انتقلت من خليفته نبيل صحراوي (أبي إبراهيم مصطفى) الذي قُتل في 2004، إلى عبدالمالك درودكال (أبي مصعب عبدالودود). لكن الجماعة بقيادة الأخير كانت تسير في خط مغاير تماماً لمسعى أميرها السابق حطاب في الهدنة والمصالحة، بل ذهبت أبعد من ذلك بكثير بانضمامها الى «القاعدة» في نهايات 2006 وتحوّلها إلى فرع هذا التنظيم في المغرب العربي اعتباراً من كانون الثاني (يناير) 2007. يعتبر حطّاب أن درودكال، الذي كان يعمل في ورشة لتصنيع المتفجرات تحت إشرافه، ليس هو القائد الفعلي لتنظيمه، بل هناك محيطون به يدفعونه إلى السير في تصرفات ربما لا يكون هو مقتنعاً بها، تماماً كما كان «عنتر زوابري ورضوان ماكادور وأبو كابوس» يسيطرون على جمال زيتوني ويدفعون به نحو مزيد من التشدد والغلو، بحسب ما يقول حطّاب.أما بن مسعود فيكشف، من جهته، أن قادة كباراً في «الجماعة السلفية» ليسوا مقتنعين بمسارها الحالي وتحوّلها إلى «القاعدة» في ظل إمارة درودكال، وينقل عن مختار بلمختار (أبو العباس)، الذي كان يقود «الجماعة السلفية» من الصحراء الجزائرية وحتى دول الساحل ما وراء الصحراء الكبرى (من موريتانيا إلى مالي والنيجر وحتى تشاد)، إنه أبلغه بأنه يريد التوقف عن قتال الحكم الجزائري و«الاعتزال» في مناطق نفوذه في الصحراء شمال مالي . يتحدث أبو عمر عبد البر بدوره عن طريقة انضمام «الجماعة السلفية» إلى «القاعدة» كونه كان مسؤول الإعلام عندما بدأت الاتصالات مع زعيم فرع «القاعدة في بلاد الرافدين» أبو مصعب الزرقاوي في 2004 للطلب منه خطف فرنسيين في العراق بهدف الضغط على بلادهم لإرغام جماعة تشادية متمردة على إطلاق القيادي الكبير في «الجماعة السلفية» المحتجز لديها عبدالرزاق «البارا» (عماري صايفي).ويروي «أبو زكريا»، من جهته، كيف التحق بالجبل «عن جهل وعاطفة» ونزل منه «عن علم» بعدما طلب منه أحد أمراء الجماعة أن يعكف على قراءة القرآن والأحاديث النبوية الشريفة، فبدأ بحفظها فعلاً واكتشف، من خلال تعلّمه الشرع، أنه كان على خطأ منذ البداية في القتال، وأن عليه أن ينزل من الجبل في ظل سياسة المصالحة التي يتبعها النظام إزاء الإسلاميين. ونزل «أبو زكريا» فعلاً من الجبل بشبه أعجوبة ... فقد حاول أحد عناصر التنظيم اعتقاله وأطلق عليه النار وأصابه إصابات بليغة (فقد جزءاً من يده). ويروي أيضاً قصة «محاكمته» عندما جهر أمام أحد «الأمراء» بأنه قادر على النزول من الجبل ومغادرة الجزائر إلى كندا. فنظّم له «مفتي» الجماعة السلفية جلسة لمحاكمته على «جريمته» هذه، وكيف واجه المفتي بأنه هو من قال له في السر أن «يعتزل» القتال ويحاكمه الآن لأنه قال علناً ما لم يجرؤ المفتي على قوله سوى في السر.«الحياة» تبدأ اليوم نشر سلسلة حلقات عن المقابلات التي أجرتها مع قادة «الجماعة السلفية» وكيف تحوّلوا من قتال الحكم الجزائري إلى مصالحته. لا يمكنك سوى أن تشعر بأنهم تغيّروا فعلاً. والنظام بدوره تغيّر بلا شك.
قال إن زيتوني بدأ إمارته بقتل الدعاة فوقفت في وجهه وبدأ الصدام مع «قيادة الجماعة المسلحة» ... حطاب لـ«الحياة»: صعدت إلى الجبل مرغماً ... وهناك تولّدت قناعة «الجهاد» ضد الحكم الجزائري
يعترف حسان حطاب (أبو حمزة) بأن «مسيرته الجهادية» لم تكن وليدة تخطيط مسبق، بعكس «جهاديين» آخرين كانوا يستعدون لقتال الحكم الجزائري منذ ما قبل إلغاء الانتخابات التشريعية التي فازت بها جبهة الإنقاذ، في كانون الثاني (يناير) 1992. يقول إنه لم يفكّر أصلاً في المشاركة في «العمل المسلح» ولا في أعمال «تغيير المنكر بالقوة»، على رغم نشأته الدينية منذ الثمانينات في مدينة الرويبة (ولاية الجزائر العاصمة). لم يشارك حطّاب، كما يقول، حتى في مسيرات «جبهة الإنقاذ» في أيام العمل السلمي.كيف التحقت بالجبل؟ سألت حطاب في لقائنا في الإقامة السرية التي تؤويه قرب العاصمة الجزائر. يجيب: «كانت الظروف آنذاك، في 1992، صعبة جداً. فقوات الأمن تصرّفت مع الإسلاميين بنوع من العنف. بعد الغاء الانتخابات، في كانون الثاني (يناير)، بدأت حملة اعتقالات عشوائية واسعة، واعتقلت أجهزة الأمن حتى الأشخاص الذين لم يكونوا متعاطفين مع الجبهة (جبهة الإنقاذ). تعاملت مع الإسلاميين عموماً بشيء من القسوة. دفع ذلك بكثيرين إلى الصعود إلى الجبل (أي الالتحاق بجماعات مسلحة)، حتى في أوساط أولئك الذين لم يكن عندهم أدنى تفكير في القيام بذلك. وبعد التحاقهم بالجبل تولّدت لديهم هناك القناعة الشرعية (بالقتال)، وأنا أتكلم هنا عن تجربتي الخاصة. فأنا أصلاً لم أكن أنوي الصعود إلى الجبل. وإذا سألت أهل قريتي وعائلتي فيسقولون لك ذلك. لقد تربيت تربية مسجد (في إشارة إلى مسجد الهدى في حي بن زرقة، الرويبة، شرق العاصمة)، لكنني لم أكن حتى من الناس الذين كانوا، ربما، يمارسون العنف لتغيير المنكر. كنت معتدلاً، وبعضهم كان يلومني قائلاً إنني لست متعاطفاً مع الجبهة ولا أشارك في الحملات الانتخابية والتجمعات التي تنظّمها (خلال فترة العمل السلمي)».ويتابع حطاب راوياً مشاهداته لتلك الحقبة من مطلع العام 1992 حيث كانت تحصل مواجهات عنيفة بين قوات الأمن ومؤيدين لجبهة الإنقاذ يحتجون على وقف «المسار الانتخابي»: «وصلت حملة الاعتقالات آنذاك إلى الحي الذي أسكن فيه، وأوقفت قوات الأمن تقريباً جميع الذين كانوا مُلتحين ومُلتزمين (إسلامياً) من أبناء الحي. كنتُ من بين قلة قليلة من الشبان الذين لم تشملهم الاعتقالات. لكن بعد فترة، وخلال وجودي في مستشفى جاءت قوات الأمن وحاصرت المكان. كنت خائفاً، ففررت. هذا سبب التحاقي بالجبل: نتيجة حملات الاعتقال العشوائية التي تشمل الإسلاميين. وبصراحة، تولّدت القناعة لديّ (بقتال السلطات) وأنا في الجبل. نتيجة تصرفات النظام واخطائه، كُنت تجد دعاة وطلبة علم يُفتون في هذا المجال بمشروعية الجهاد».في الجبل، التحق حطاب بجماعة يقودها شخص يدعى محيى الدين وكانت تصف نفسها بأنها ثالث الجماعات القوية الناشطة في ضواحي العاصمة الجزائرية. الجماعة الأولى كانت بقيادة محمد علال (موح ليفيي) وهي النواة الأساسية لـ «الجماعة الإسلامية المسلحة» (بعدما انضم إليها «الأفغان الجزائريون» لاحقاً)، والثانية هي جماعة «حركة الدولة الإسلامية» التي كان يقودها السعيد مخلوفي (إلى جانب عبدالقادر شبوطي). ومنذ أواخر العام 1992 إلى نهايات العام 1993، برزت «الجماعة المسلحة» («الجيا») بوصفها الأقوى فعلياً بين الجماعات التي كانت تقاتل الحكم الجزائري وتعتبره «مرتداً». ولم يكد العام 1994 يطل حتى تكثّفت الاتصالات بين الجماعات المختلفة وأثمرت في ربيع ذلك العام اتفاقاً على الوحدة تحت راية «الجماعة المسلحة» بقيادة الشريف قوسمي (أبو عبدالله أحمد). وانضم إلى صفوف «الجماعة» في تلك الوحدة الشهيرة قادة «حركة الدولة الإسلامية» (مخلوفي) وجناح واسع من «جبهة الإنقاذ» يمثّله الشيخ محمد السعيد (زعيم التيار الذي يُطلق عليه إسم «الجزأرة»).كانت «الوحدة» مرحلة مفصلية في مسيرة حطاب «الجهادية»، إذ انضم فوراً إلى الجماعة الجديدة وبدأ يترقى في صفوفها ليصبح خلال فترة وجيزة واحداً من «أمرائها» البارزين بعدما عيّنه «أمير الجيا» جمال زيتوني، في منتصف 1995، أميراً على كامل «المنطقة الثانية» الاستراتيجية التي تحيط بالعاصمة الجزائرية شرقاً وتمتد حتى ولاية البويرة. وتُعتبر هذه المنطقة تالياً «بوابة» أساسية للوصول إلى كل ولايات الشرق الجزائري.يقول حطاب: «كانت الجماعات مشتتة على مستوى الوطن عندما حصلت الوحدة (في أيار/مايو 1994). كانت الجماعة الإسلامية المسلحة ناشطة لكنها منزوية خصوصاً في ناحية البُليدة (جنوب العاصمة)، وكانت هناك الحركة التي يقودها السعيد مخلوفي وجماعات أخرى تنشط في أكثر من منطقة. فجاءت الوحدة وتوحدت الجماعات المختلفة في إطار «الجيا» تحت إمارة أبو عبدالله أحمد (قوسمي). وفي إمارته عُيّنت أميراً على «كتيبة الفتح» التابعة لولاية الجزائر والتي يمتد نشاطها شرقاً حتى ولاية بومرداس. وفي عهد جمال زيتوني (الذي تولى الإمارة إثر مقتل أحمد في اشتباك مع قوات الأمن في أيلول/سبتمبر 1994)، ترقيت إلى «أمير جند» على ثلاث كتائب هي «الفتح» و «القدس» و «الأنصار». ثم عيّنني زيتوني أميراً على «المنطقة الثانية» وكانت تحت إمارتي نحو 13 كتيبة. وصرت لاحقاً من أعيان الجماعة الإسلامية المسلحة».لكن حطاب يكشف أنه سرعان ما اختلف مع زيتوني بسبب ممارسات الأخير الذي يُلقي عليه كثيرون باللوم في دفع الجماعة نحو مزيد من اللغو والتطرف تجلّيا في بيانات تهدر دم كثير من فئات الشعب الجزائري وفي قرارات اتخذها زيتوني في حق مخالفيه - أو من يشتبه في أنهم مخالفون له من داخل الجماعة - وتضمنت إعدامهم بمبررات واهية في كثير من الأحيان. ويقول حطاب عن تلك الحقبة: «بعد فترة وجيزة من عملي تحت إمارة زيتوني، نشب بيننا خلاف. فقد كنت رأيت الطريقة التي تولى فيها الإمارة، إذ نصّبه مؤيدوه أميراً بالقوة بعد مقتل قوسمي في صيف 1994، فاضطر «أعيان الجماعة» - أهل الحل والعقد - إلى تثبيته أميراً كي لا تحصل «فتنة» في صفوف التنظيم. وهو لجأ، بعد توليه الإمارة، إلى تعييّني عضواً من أعيان الجماعة. لكن لم يفعل ذلك بمبادرة منه، بل نتيجة ضغط مارسه عليه بعض الأمراء الذين أرادوا أن أكون من الأعيان. وحتى تنصيبي أميراً على المنطقة الثانية كان أيضاً بضغط من بعض الأمراء. لكن بمجرد تعرّفي على زيتوني شخصياً وسؤالي عنه وعن المحيطين به وجدت أنهم ليسوا من الشخصيات المرغوب فيها (على رأس الجماعة). كانوا أشخاصاً بلا مستوى. كانوا حقيرين ومنبوذين، تأمّروا عنوة كأعيان للجماعة، ولم تجد عقلياتهم وتصرفاتهم استحساناً لدي. الملاحظة الأولى التي كوّنتها عن زيتوني وبقيت ماثلة أمام عيني هي ملابسات محاكمته طالب علم متهم بأنه يعمل لمصلحة الاستخبارات. كنتُ حاضراً في أثناء تلك المحاكمة، ورأيت كيف أن القضاة الذين يحاكمونه يريدون تثبيت التهمة عليه. طلب مني زيتوني أن استجوبه بنفسي لانتزع منه اعترافاً، فرفضت أن أحقق معه وقلت له إنكم تريدون إثبات التهمة ضد شخص أراه بريئاً. فالرجل هو من طلب ان يُحاكم لأنه يريد أن ينفي التهمة عنه. أراد أن ينفيها بإصراره على أن يُحاكم، فلو كان فعلاً من المخابرات لما كان بقي معكم، علماً أنه يقاتل في صفوف «الجماعة المسلحة» منذ فترة طويلة. رفضت محاكمة طالب العلم، وقلت لزيتوني إن هذا الرجل بريء وهذه أدلتي على براءته. ولكن بعد ذهابي من منطقته، نفّذ زيتوني الحكم فيه وأصدر بياناً وأشرطة أرسلها إلى «المنطقة الثانية». لكنني أوقفتها وأعدتها له وقلت له إن هذه الأشرطة والبيان لا تُوزّع في منطقتي. وكررت له إن هذا الرجل اعتبره بريئاً وبالتالي لا استطيع أن أكذب على جنودي وأقول لهم إنه مذنب. فقد كنت شاهداً خلال المحاكمة على انه بريء، لكنكم حكمتم عليه بتهمة كنتم فقط تريدون إثباتها، ولكن قناعتي هي خلاف ذلك. بعد إعدامه، أخذت موقفاً صارماً من قيادة الجماعة وسجّلت عليهم ملاحظة سيئة. وبدأت احتاط لكل الأمور».ويتابع حطاب متحدثاً عن تلك الحقبة وكيف تعمّقت خلافاته مع زيتوني والحاشية المحيطة به: «لاحظ زيتوني إنني لا أسير في طريقه. فأراد أن يقرّبني إليه ويكسبني إلى صفه. حاول ذلك مرات عدة من خلال دعوتي إلى حلقات من الحوارات. لكنني بدأت أقرأ البيانات التي يُصدرها، مثل بيان «منع السفر الطويل» الذي يستهدف الأفراد في العشرينات من عمرهم (من 21 حتى 27 سنة) الذين يتم توقيفهم بلا وثائق ويُقتلون على أساس أنهم من الخدمة الوطنية (الخدمة العسكرية الإلزامية)، ثم بيان عمال شركة سوناطراك، ثم بيان إهدار دم نساء (وإمهات وبنات) رجال الدرك وأسلاك الأمن، وبيان موظفي الحماية المدنية وبيان موظفي الضمان الاجتماعي، وغيرها من البيانات. رفضت تطبيق بيانات زيتوني وأرسلت له رداً شرعياً وأعدت له البيانات قائلاً إنني أرفضها ولن أطبقها. كان زيتوني قاسياً مع الأمراء الذين كانوا يهابونه في الحقيقة. حتى الأعيان كانوا يهابونه. لكنني كنت قادراً على الضغط عليه بسبب الاعتبارات التي كنت أحظى بها. فجنود المنطقة الثانية وأمراؤها كانوا يثقون بي. كنت أسوسهم بسياسة تختلف عن السياسة التي تعتمدها الجماعة مع الجنود في المناطق الأخرى. كنت أحظى بثقة الأمراء والجنود في منطقتي، وكان ذلك أحد الأسباب التي دفعت الأمراء إلى الضغط على زيتوني لتعييني أميراً على المنطقة. لكن زيتوني ندم بعدما أمّرني، إذ رآني أراجع في كل يوم القرارات التي يُصدرها، ولم يكن قادراً على اتخاذ إجراءات ضدي. فلو عزلني لن يرضى لا الأمراء ولا الجنود في المنطقة. وأعتقد أنه شخصياً كان يحب سياستي تجاه الأمراء والجنود، لكن المحيطين به هم من كان يضغط عليه».ومن هم هؤلاء المحيطون به؟ يجيب حطاب بلا تردد: «المحيطون به هم عنتر زوابري ورضوان ماكادور من ناحية البُليدة وأبو كابوس من ولاية البليدة أيضاً. هؤلاء هم من نصّب زيتوني (أميراً)، وهم من شوّه أمامه صورة الناس الذين كانوا خصوماً لهم من الأمراء والأعيان. زيتوني لم يكن يعرف الناس، فقد كان أمير كتيبة (الكتيبة الخضراء)، ولا يعرف حتى ماذا يحصل داخل الجماعة ولا كيف تُسيّر ومن هم الأشخاص الذين يُسيّرونها. جاؤوا به ونصّبوه عنوة أميراً من دون الأعيان وأصدروا بياناً بتنصيبه بعد مقتل أبي عبدالله أحمد. وبعد خروج نبأ تنصيب زيتوني أميراً، قال الأعيان: فلنبقه أميراً بما أنه صار كذلك لئلا نزيد الفتنة. فلنأت به إلى عندنا ونعيّنه أميراً ولكن مع تعييّن ضابط شرعي ومستشار عسكري له. قبلوا بذلك (زيتوني وحاشيته)، لكن زيتوني همّش لاحقاً المستشار العسكري وهمّش الضابط الشرعي وأحاط نفسه بهؤلاء الأشخاص الخطيرين وهم من بات يُملي عليه ماذا يفعل. صاروا يقولون له حذاري من هذا الأمير أو طالب العلم أو من هذا الشخص أو ذاك، وبدأوا في إزاحة الأمراء الطيبين الذين يتمتعون بأخلاق حميدة وبدأوا يصفّونهم، وبدأوا يورّطون زيتوني في ذلك: القتل والتصرفات القاسية مع الأمراء. حتى بدأت تتشوه صورة زيتوني نفسه. بعد ذلك بدأت احتاط منه، وصاروا ينظرون إلي على أنني عنصر خطير (بسبب معارضتي سياستهم). حاولوا مرات عدة أن يتصرفوا معي تصرفات لم أقبل بها، وكنت أتعامل معهم بحيطة وحذر. ثم وصلت الأمور إلى المرحلة التي بدأ فيها زيتوني يُصدر تلك البيانات. لم أقتنع بها من الناحية الشرعية وأعدتها له مع ردود شرعية. أبلغت بعض الأمراء الحاضرين (في المنطقة الثانية) برفضي تلك البيانات. لم يكن زيتوني يستطيع ارغامي على تطبيقها. لكنه بدأ يتصرف بشدة مع بعض الأمراء الذين لا يجد لديهم سنداً قوياً من قواعدهم، ويأخذ في حقهم قرارات بالتحويل أو العقوبة القاسية وأحياناً القتل. كان يقوم بتلك الأمور خفية عني لأنه يخافني. وكان في الحقيقة لا يُجري لهم محاكمات حقيقية بل اغتيالات. فقد كان في «الكتيبة الخضراء» التابعة لزيتوني أفراد يثقون بي بحكم معرفتهم بأنني متدين ولا أقدم على أمر سوى بعد معرفة رأي الشرع فيه. كان هؤلاء يعطونني أخباراً سرية ويقولون إنهم نفّذوا هذا العمل أو ذاك بناء على توجيهات زيتوني وخوفاً منه. وعندما كنت أسمع بأمر ما كنت أصعد إلى عند زيتوني وأطلب عقد حلقة (جلسة) رسمية. لم يكن كثيرون من أعيان الجماعة حاضرين، فكثير من هؤلاء من مناطق بعيدة. وكان زيتوني قد أضاف إلى عضوية الأعيان أفراداً من حاشيته والمحسوبين عليه، وسعى هؤلاء الى تعزيز وضعهم في مجلس الأعيان وتحكموا فيه وأداروا الجماعة مثلما يريدون. كنتُ الفرد الوحيد من الأعيان من المنطقة الثانية وكنت معارضاً دائماً له. فعلى رغم معرفتي بخطورتهم، إلا أنني كنت أعرف وزني أيضاً وأعرف أنني قادر على ممارسة ضغط عليهم. وكما قال لي بعض من حضر الجلسات التي عُقدت في غيابي، كان زيتوني يقول إنه لا يمكنه أن يُرغم حسان على القيام بأمر ما إذ أن «الجيا» يمكن أن تتفكك بدونه. كان يقول إنه لو ذهب حسان فإن الإمراء سيفقدون الثقة (بالجماعة)، وبالتالي فإنه قادر على خسارة العديد من الأمراء شرط ألا يخسر حسان. وفعلاً حاول أن يكسبني بكل طريقة. كنت أعرف جبروته وطغيانه، وعلى رغم ذلك فقد كان يستجيب لي ما أطلب منه خلال اللقاءات بيننا. ولكن على رغم ذلك، فقد كنت محتاطاً منه خشية أن يُغدر بي».
«الحياة» تحاور أربعة من أبرز قادتها عن سنوات الرعب في الجزائر (الحلقة الأولى) ... قادة «الجماعة السلفية»: لهذه الأسباب قاتلنا ولهذه الأسباب ألقينا السلاح
الجزائر - كميل الطويل الحياة - 14/03/09//
«تغيرت تصرّفات النظام، فتغيرنا نحن أيضاً». بهذه العبارة يلخّص حسان حطاب، مؤسس «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» التي تحوّلت الآن إلى الفرع المغاربي لتنظيم «القاعدة»، مسيرته الطويلة من الصراع ضد الحكم الجزائري على مدى سنوات التسعينات وكيف تحوّل من قتاله إلى مهادنته فمصالحته.
كان عليّ أن أنتظر أكثر من عشر سنوات للقاء هذا الرجل الذي أجريت معه حواره الإعلامي الأول بـ «الواسطة» (عبر ممثليه في لندن) في العام 1998. لكن حطّاب اليوم ليس حطاب الذي أجاب عن أسئلتي قبل عشر سنوات ونيّف. لقد تغيّر. كان حطّاب آنذاك خارجاً لتوه من صراع مرير مع قيادة «الجماعة الإسلامية المسلحة»، إحدى أكثر الجماعات دموية في تاريخ الجزائر المعاصر. تحدى حطاب (المعروف بـ«أبي حمزة») أميرها عنتر زوابري وخرج عن طاعته وانشق عنه ليؤسس «الجماعة السلفية للدعوة والقتال». انشق حطاب عن «الجماعة المسلحة» آنذاك ليس لأنه لم يعد مقتنعاً بقتال الحكم الجزائري، بل لأنه وجد نفسه غير قادر على وقف «الانحدار إلى الهاوية» الذي كانت «الجماعة»، أو «الجيا» بالتعبير الجزائري، تسير فيه خلال عهدي أميريها جمال زيتوني (أبو عبدالرحمن أمين) وخليفته عنتر زوابري (أبو طلحة). عندما راسلته في العام 1998، عبر ممثليه في لندن، أرسل لي أجوبة كشف مضمونها بوضوح أن حطّاب ليس فقط غير مؤمن بأن السلام ممكن مع الحكم الجزائري بل هو يعتبر أن الذي يُهادنون النظام منخدعون وأن سلامهم ليس سوى «استسلام». سمّى بالإسم قادة «الجيش الإسلامي للإنقاذ» الذي كان أميره مدني مزراق قد أعلن هدنة لعملياته في صيف 1997 قبل أن يدخل في إطار سلام تضمن عفواً عن عناصر تنظيمه وعناصر الجماعات الأخرى التي وافقت مثله على القاء السلاح.
التقيت حطاب في الجزائر هذه المرة. فقد لحق، متأخراً، بمسيرة مدني مزراق، وألقى السلاح ونزل من الجبل وسلّم نفسه إلى السلطات في أيلول (سبتمبر) 2007. التقيته في إقامة سرية تحرسها أجهزة الأمن قرب العاصمة الجزائرية وبعد الحصول على إذن بإجراء مقابلته الصحافية الأولى «منذ نزوله من الجبل». لم يكن حطاب لوحده. كان معه ثلاثة آخرون من القادة الكبار في «الجماعة السلفية» ممن اقتنعوا أيضاً بأنه لم يعد هناك من مبرر لقتال الحكم الجزائري وأن الأفضل لهم ولعائلاتهم وللجزائر أن ينزلوا من الجبل ويلتحقوا بمسعى السلم والمصالحة الذي يقوده الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة. إضافة إلى حطاب، شارك في الحوارات كل من عبدالقادر بن مسعود المكنى مصعب أبو داوود، الأمير السابق للمنطقة التاسعة الصحراوية في «الجماعة السلفية» (سلّم نفسه في آب/أغسطس 2007)، وأبو عمر عبدالبر رئيس اللجنة الإعلامية في الجماعة ذاتها، وأبو زكريا رئيس اللجنة الطبية. والأخيران من «الأعيان» في «الجماعة السلفية» (مجلس أهل الحل والعقد) وأعضاء مجلس الشورى.
قدّم الأربعة روايتهم لطريقة نزولهم من الجبل ولماذا تغيّر اقتناعهم من محاربة الحكم الجزائري إلى مصالحته. كشف حطاب أنه لم يصعد إلى الجبل عن «اقتناع» مسبق بضرورة قتال النظام. صعد لأن النظام، كما قال، تصرّف بعنف ضد الإسلاميين على اختلاف مشاربهم بعد إلغاء الانتخابات التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في كانون الثاني (يناير) 1992. في الجبل، كما قال، حصل لديه اقتناع بأن هناك «مبررات شرعية» تحتّم قتال النظام. تحدث عن خلافاته مع أمراء «الجماعة الإسلامية المسلحة»، وكيف دخل في صراع مع جمال زيتوني الذي تولى الإمارة في صيف 1994، وصاغ بيان الخروج عليه في اليوم ذاته الذي قُتل فيه زيتوني على يد منشقين عن جماعته. روى قصة تأسيس «الجماعة السلفية»، وكيف بدأ يلمس تغييراً في «تصرفات» الحكم الجزائري مع تولي الرئيس بوتفليقة السلطة في 1999. كشف أيضاً أنه بدأ في الألفية الجديدة نوعاً من «جس النبض» داخل جماعته لمعرفة مدى استعدادها لوقف القتال والالتحاق بالمصالحة. لم يكن الأمر هيناً بالتأكيد، إذ أنه يروي أن بعض القادة كانوا يُساندون موقفه في السر لكنهم يترددون في الجهر برأيهم علناً. فقرر «التنحي» طوعاً من إمارة تنظيمه في 2003 كي تكون له «حرية الحركة» لجمع مؤيدي مسعاه لمصالحة النظام. وبعد سنتين من التنحي، «اعتزل» حطّاب عن الجماعة كلياً في 2005، واتخذ موقعاً مستقلاً في الجبل قريباً من مواقع لـ «الجماعة السلفية» التي كانت قيادتها انتقلت من خليفته نبيل صحراوي (أبي إبراهيم مصطفى) الذي قُتل في 2004، إلى عبدالمالك درودكال (أبي مصعب عبدالودود). لكن الجماعة بقيادة الأخير كانت تسير في خط مغاير تماماً لمسعى أميرها السابق حطاب في الهدنة والمصالحة، بل ذهبت أبعد من ذلك بكثير بانضمامها الى «القاعدة» في نهايات 2006 وتحوّلها إلى فرع هذا التنظيم في المغرب العربي اعتباراً من كانون الثاني (يناير) 2007. يعتبر حطّاب أن درودكال، الذي كان يعمل في ورشة لتصنيع المتفجرات تحت إشرافه، ليس هو القائد الفعلي لتنظيمه، بل هناك محيطون به يدفعونه إلى السير في تصرفات ربما لا يكون هو مقتنعاً بها، تماماً كما كان «عنتر زوابري ورضوان ماكادور وأبو كابوس» يسيطرون على جمال زيتوني ويدفعون به نحو مزيد من التشدد والغلو، بحسب ما يقول حطّاب.
أما بن مسعود فيكشف، من جهته، أن قادة كباراً في «الجماعة السلفية» ليسوا مقتنعين بمسارها الحالي وتحوّلها إلى «القاعدة» في ظل إمارة درودكال، وينقل عن مختار بلمختار (أبو العباس)، الذي كان يقود «الجماعة السلفية» من الصحراء الجزائرية وحتى دول الساحل ما وراء الصحراء الكبرى (من موريتانيا إلى مالي والنيجر وحتى تشاد)، إنه أبلغه بأنه يريد التوقف عن قتال الحكم الجزائري و«الاعتزال» في مناطق نفوذه في الصحراء شمال مالي . يتحدث أبو عمر عبد البر بدوره عن طريقة انضمام «الجماعة السلفية» إلى «القاعدة» كونه كان مسؤول الإعلام عندما بدأت الاتصالات مع زعيم فرع «القاعدة في بلاد الرافدين» أبو مصعب الزرقاوي في 2004 للطلب منه خطف فرنسيين في العراق بهدف الضغط على بلادهم لإرغام جماعة تشادية متمردة على إطلاق القيادي الكبير في «الجماعة السلفية» المحتجز لديها عبدالرزاق «البارا» (عماري صايفي).
ويروي «أبو زكريا»، من جهته، كيف التحق بالجبل «عن جهل وعاطفة» ونزل منه «عن علم» بعدما طلب منه أحد أمراء الجماعة أن يعكف على قراءة القرآن والأحاديث النبوية الشريفة، فبدأ بحفظها فعلاً واكتشف، من خلال تعلّمه الشرع، أنه كان على خطأ منذ البداية في القتال، وأن عليه أن ينزل من الجبل في ظل سياسة المصالحة التي يتبعها النظام إزاء الإسلاميين. ونزل «أبو زكريا» فعلاً من الجبل بشبه أعجوبة ... فقد حاول أحد عناصر التنظيم اعتقاله وأطلق عليه النار وأصابه إصابات بليغة (فقد جزءاً من يده). ويروي أيضاً قصة «محاكمته» عندما جهر أمام أحد «الأمراء» بأنه قادر على النزول من الجبل ومغادرة الجزائر إلى كندا. فنظّم له «مفتي» الجماعة السلفية جلسة لمحاكمته على «جريمته» هذه، وكيف واجه المفتي بأنه هو من قال له في السر أن «يعتزل» القتال ويحاكمه الآن لأنه قال علناً ما لم يجرؤ المفتي على قوله سوى في السر.
«الحياة» تبدأ اليوم نشر سلسلة حلقات عن المقابلات التي أجرتها مع قادة «الجماعة السلفية» وكيف تحوّلوا من قتال الحكم الجزائري إلى مصالحته. لا يمكنك سوى أن تشعر بأنهم تغيّروا فعلاً. والنظام بدوره تغيّر بلا شك.
قال إن زيتوني بدأ إمارته بقتل الدعاة فوقفت في وجهه وبدأ الصدام مع «قيادة الجماعة المسلحة» ... حطاب لـ«الحياة»: صعدت إلى الجبل مرغماً ... وهناك تولّدت قناعة «الجهاد» ضد الحكم الجزائري
يعترف حسان حطاب (أبو حمزة) بأن «مسيرته الجهادية» لم تكن وليدة تخطيط مسبق، بعكس «جهاديين» آخرين كانوا يستعدون لقتال الحكم الجزائري منذ ما قبل إلغاء الانتخابات التشريعية التي فازت بها جبهة الإنقاذ، في كانون الثاني (يناير) 1992. يقول إنه لم يفكّر أصلاً في المشاركة في «العمل المسلح» ولا في أعمال «تغيير المنكر بالقوة»، على رغم نشأته الدينية منذ الثمانينات في مدينة الرويبة (ولاية الجزائر العاصمة). لم يشارك حطّاب، كما يقول، حتى في مسيرات «جبهة الإنقاذ» في أيام العمل السلمي.
كيف التحقت بالجبل؟ سألت حطاب في لقائنا في الإقامة السرية التي تؤويه قرب العاصمة الجزائر. يجيب: «كانت الظروف آنذاك، في 1992، صعبة جداً. فقوات الأمن تصرّفت مع الإسلاميين بنوع من العنف. بعد الغاء الانتخابات، في كانون الثاني (يناير)، بدأت حملة اعتقالات عشوائية واسعة، واعتقلت أجهزة الأمن حتى الأشخاص الذين لم يكونوا متعاطفين مع الجبهة (جبهة الإنقاذ). تعاملت مع الإسلاميين عموماً بشيء من القسوة. دفع ذلك بكثيرين إلى الصعود إلى الجبل (أي الالتحاق بجماعات مسلحة)، حتى في أوساط أولئك الذين لم يكن عندهم أدنى تفكير في القيام بذلك. وبعد التحاقهم بالجبل تولّدت لديهم هناك القناعة الشرعية (بالقتال)، وأنا أتكلم هنا عن تجربتي الخاصة. فأنا أصلاً لم أكن أنوي الصعود إلى الجبل. وإذا سألت أهل قريتي وعائلتي فيسقولون لك ذلك. لقد تربيت تربية مسجد (في إشارة إلى مسجد الهدى في حي بن زرقة، الرويبة، شرق العاصمة)، لكنني لم أكن حتى من الناس الذين كانوا، ربما، يمارسون العنف لتغيير المنكر. كنت معتدلاً، وبعضهم كان يلومني قائلاً إنني لست متعاطفاً مع الجبهة ولا أشارك في الحملات الانتخابية والتجمعات التي تنظّمها (خلال فترة العمل السلمي)».
ويتابع حطاب راوياً مشاهداته لتلك الحقبة من مطلع العام 1992 حيث كانت تحصل مواجهات عنيفة بين قوات الأمن ومؤيدين لجبهة الإنقاذ يحتجون على وقف «المسار الانتخابي»: «وصلت حملة الاعتقالات آنذاك إلى الحي الذي أسكن فيه، وأوقفت قوات الأمن تقريباً جميع الذين كانوا مُلتحين ومُلتزمين (إسلامياً) من أبناء الحي. كنتُ من بين قلة قليلة من الشبان الذين لم تشملهم الاعتقالات. لكن بعد فترة، وخلال وجودي في مستشفى جاءت قوات الأمن وحاصرت المكان. كنت خائفاً، ففررت. هذا سبب التحاقي بالجبل: نتيجة حملات الاعتقال العشوائية التي تشمل الإسلاميين. وبصراحة، تولّدت القناعة لديّ (بقتال السلطات) وأنا في الجبل. نتيجة تصرفات النظام واخطائه، كُنت تجد دعاة وطلبة علم يُفتون في هذا المجال بمشروعية الجهاد».
في الجبل، التحق حطاب بجماعة يقودها شخص يدعى محيى الدين وكانت تصف نفسها بأنها ثالث الجماعات القوية الناشطة في ضواحي العاصمة الجزائرية. الجماعة الأولى كانت بقيادة محمد علال (موح ليفيي) وهي النواة الأساسية لـ «الجماعة الإسلامية المسلحة» (بعدما انضم إليها «الأفغان الجزائريون» لاحقاً)، والثانية هي جماعة «حركة الدولة الإسلامية» التي كان يقودها السعيد مخلوفي (إلى جانب عبدالقادر شبوطي). ومنذ أواخر العام 1992 إلى نهايات العام 1993، برزت «الجماعة المسلحة» («الجيا») بوصفها الأقوى فعلياً بين الجماعات التي كانت تقاتل الحكم الجزائري وتعتبره «مرتداً». ولم يكد العام 1994 يطل حتى تكثّفت الاتصالات بين الجماعات المختلفة وأثمرت في ربيع ذلك العام اتفاقاً على الوحدة تحت راية «الجماعة المسلحة» بقيادة الشريف قوسمي (أبو عبدالله أحمد). وانضم إلى صفوف «الجماعة» في تلك الوحدة الشهيرة قادة «حركة الدولة الإسلامية» (مخلوفي) وجناح واسع من «جبهة الإنقاذ» يمثّله الشيخ محمد السعيد (زعيم التيار الذي يُطلق عليه إسم «الجزأرة»).
كانت «الوحدة» مرحلة مفصلية في مسيرة حطاب «الجهادية»، إذ انضم فوراً إلى الجماعة الجديدة وبدأ يترقى في صفوفها ليصبح خلال فترة وجيزة واحداً من «أمرائها» البارزين بعدما عيّنه «أمير الجيا» جمال زيتوني، في منتصف 1995، أميراً على كامل «المنطقة الثانية» الاستراتيجية التي تحيط بالعاصمة الجزائرية شرقاً وتمتد حتى ولاية البويرة. وتُعتبر هذه المنطقة تالياً «بوابة» أساسية للوصول إلى كل ولايات الشرق الجزائري.
يقول حطاب: «كانت الجماعات مشتتة على مستوى الوطن عندما حصلت الوحدة (في أيار/مايو 1994). كانت الجماعة الإسلامية المسلحة ناشطة لكنها منزوية خصوصاً في ناحية البُليدة (جنوب العاصمة)، وكانت هناك الحركة التي يقودها السعيد مخلوفي وجماعات أخرى تنشط في أكثر من منطقة. فجاءت الوحدة وتوحدت الجماعات المختلفة في إطار «الجيا» تحت إمارة أبو عبدالله أحمد (قوسمي). وفي إمارته عُيّنت أميراً على «كتيبة الفتح» التابعة لولاية الجزائر والتي يمتد نشاطها شرقاً حتى ولاية بومرداس. وفي عهد جمال زيتوني (الذي تولى الإمارة إثر مقتل أحمد في اشتباك مع قوات الأمن في أيلول/سبتمبر 1994)، ترقيت إلى «أمير جند» على ثلاث كتائب هي «الفتح» و «القدس» و «الأنصار». ثم عيّنني زيتوني أميراً على «المنطقة الثانية» وكانت تحت إمارتي نحو 13 كتيبة. وصرت لاحقاً من أعيان الجماعة الإسلامية المسلحة».
لكن حطاب يكشف أنه سرعان ما اختلف مع زيتوني بسبب ممارسات الأخير الذي يُلقي عليه كثيرون باللوم في دفع الجماعة نحو مزيد من اللغو والتطرف تجلّيا في بيانات تهدر دم كثير من فئات الشعب الجزائري وفي قرارات اتخذها زيتوني في حق مخالفيه - أو من يشتبه في أنهم مخالفون له من داخل الجماعة - وتضمنت إعدامهم بمبررات واهية في كثير من الأحيان. ويقول حطاب عن تلك الحقبة: «بعد فترة وجيزة من عملي تحت إمارة زيتوني، نشب بيننا خلاف. فقد كنت رأيت الطريقة التي تولى فيها الإمارة، إذ نصّبه مؤيدوه أميراً بالقوة بعد مقتل قوسمي في صيف 1994، فاضطر «أعيان الجماعة» - أهل الحل والعقد - إلى تثبيته أميراً كي لا تحصل «فتنة» في صفوف التنظيم. وهو لجأ، بعد توليه الإمارة، إلى تعييّني عضواً من أعيان الجماعة. لكن لم يفعل ذلك بمبادرة منه، بل نتيجة ضغط مارسه عليه بعض الأمراء الذين أرادوا أن أكون من الأعيان. وحتى تنصيبي أميراً على المنطقة الثانية كان أيضاً بضغط من بعض الأمراء. لكن بمجرد تعرّفي على زيتوني شخصياً وسؤالي عنه وعن المحيطين به وجدت أنهم ليسوا من الشخصيات المرغوب فيها (على رأس الجماعة). كانوا أشخاصاً بلا مستوى. كانوا حقيرين ومنبوذين، تأمّروا عنوة كأعيان للجماعة، ولم تجد عقلياتهم وتصرفاتهم استحساناً لدي. الملاحظة الأولى التي كوّنتها عن زيتوني وبقيت ماثلة أمام عيني هي ملابسات محاكمته طالب علم متهم بأنه يعمل لمصلحة الاستخبارات. كنتُ حاضراً في أثناء تلك المحاكمة، ورأيت كيف أن القضاة الذين يحاكمونه يريدون تثبيت التهمة عليه. طلب مني زيتوني أن استجوبه بنفسي لانتزع منه اعترافاً، فرفضت أن أحقق معه وقلت له إنكم تريدون إثبات التهمة ضد شخص أراه بريئاً. فالرجل هو من طلب ان يُحاكم لأنه يريد أن ينفي التهمة عنه. أراد أن ينفيها بإصراره على أن يُحاكم، فلو كان فعلاً من المخابرات لما كان بقي معكم، علماً أنه يقاتل في صفوف «الجماعة المسلحة» منذ فترة طويلة. رفضت محاكمة طالب العلم، وقلت لزيتوني إن هذا الرجل بريء وهذه أدلتي على براءته. ولكن بعد ذهابي من منطقته، نفّذ زيتوني الحكم فيه وأصدر بياناً وأشرطة أرسلها إلى «المنطقة الثانية». لكنني أوقفتها وأعدتها له وقلت له إن هذه الأشرطة والبيان لا تُوزّع في منطقتي. وكررت له إن هذا الرجل اعتبره بريئاً وبالتالي لا استطيع أن أكذب على جنودي وأقول لهم إنه مذنب. فقد كنت شاهداً خلال المحاكمة على انه بريء، لكنكم حكمتم عليه بتهمة كنتم فقط تريدون إثباتها، ولكن قناعتي هي خلاف ذلك. بعد إعدامه، أخذت موقفاً صارماً من قيادة الجماعة وسجّلت عليهم ملاحظة سيئة. وبدأت احتاط لكل الأمور».
ويتابع حطاب متحدثاً عن تلك الحقبة وكيف تعمّقت خلافاته مع زيتوني والحاشية المحيطة به: «لاحظ زيتوني إنني لا أسير في طريقه. فأراد أن يقرّبني إليه ويكسبني إلى صفه. حاول ذلك مرات عدة من خلال دعوتي إلى حلقات من الحوارات. لكنني بدأت أقرأ البيانات التي يُصدرها، مثل بيان «منع السفر الطويل» الذي يستهدف الأفراد في العشرينات من عمرهم (من 21 حتى 27 سنة) الذين يتم توقيفهم بلا وثائق ويُقتلون على أساس أنهم من الخدمة الوطنية (الخدمة العسكرية الإلزامية)، ثم بيان عمال شركة سوناطراك، ثم بيان إهدار دم نساء (وإمهات وبنات) رجال الدرك وأسلاك الأمن، وبيان موظفي الحماية المدنية وبيان موظفي الضمان الاجتماعي، وغيرها من البيانات. رفضت تطبيق بيانات زيتوني وأرسلت له رداً شرعياً وأعدت له البيانات قائلاً إنني أرفضها ولن أطبقها. كان زيتوني قاسياً مع الأمراء الذين كانوا يهابونه في الحقيقة. حتى الأعيان كانوا يهابونه. لكنني كنت قادراً على الضغط عليه بسبب الاعتبارات التي كنت أحظى بها. فجنود المنطقة الثانية وأمراؤها كانوا يثقون بي. كنت أسوسهم بسياسة تختلف عن السياسة التي تعتمدها الجماعة مع الجنود في المناطق الأخرى. كنت أحظى بثقة الأمراء والجنود في منطقتي، وكان ذلك أحد الأسباب التي دفعت الأمراء إلى الضغط على زيتوني لتعييني أميراً على المنطقة. لكن زيتوني ندم بعدما أمّرني، إذ رآني أراجع في كل يوم القرارات التي يُصدرها، ولم يكن قادراً على اتخاذ إجراءات ضدي. فلو عزلني لن يرضى لا الأمراء ولا الجنود في المنطقة. وأعتقد أنه شخصياً كان يحب سياستي تجاه الأمراء والجنود، لكن المحيطين به هم من كان يضغط عليه».
ومن هم هؤلاء المحيطون به؟ يجيب حطاب بلا تردد: «المحيطون به هم عنتر زوابري ورضوان ماكادور من ناحية البُليدة وأبو كابوس من ولاية البليدة أيضاً. هؤلاء هم من نصّب زيتوني (أميراً)، وهم من شوّه أمامه صورة الناس الذين كانوا خصوماً لهم من الأمراء والأعيان. زيتوني لم يكن يعرف الناس، فقد كان أمير كتيبة (الكتيبة الخضراء)، ولا يعرف حتى ماذا يحصل داخل الجماعة ولا كيف تُسيّر ومن هم الأشخاص الذين يُسيّرونها. جاؤوا به ونصّبوه عنوة أميراً من دون الأعيان وأصدروا بياناً بتنصيبه بعد مقتل أبي عبدالله أحمد. وبعد خروج نبأ تنصيب زيتوني أميراً، قال الأعيان: فلنبقه أميراً بما أنه صار كذلك لئلا نزيد الفتنة. فلنأت به إلى عندنا ونعيّنه أميراً ولكن مع تعييّن ضابط شرعي ومستشار عسكري له. قبلوا بذلك (زيتوني وحاشيته)، لكن زيتوني همّش لاحقاً المستشار العسكري وهمّش الضابط الشرعي وأحاط نفسه بهؤلاء الأشخاص الخطيرين وهم من بات يُملي عليه ماذا يفعل. صاروا يقولون له حذاري من هذا الأمير أو طالب العلم أو من هذا الشخص أو ذاك، وبدأوا في إزاحة الأمراء الطيبين الذين يتمتعون بأخلاق حميدة وبدأوا يصفّونهم، وبدأوا يورّطون زيتوني في ذلك: القتل والتصرفات القاسية مع الأمراء. حتى بدأت تتشوه صورة زيتوني نفسه. بعد ذلك بدأت احتاط منه، وصاروا ينظرون إلي على أنني عنصر خطير (بسبب معارضتي سياستهم). حاولوا مرات عدة أن يتصرفوا معي تصرفات لم أقبل بها، وكنت أتعامل معهم بحيطة وحذر. ثم وصلت الأمور إلى المرحلة التي بدأ فيها زيتوني يُصدر تلك البيانات. لم أقتنع بها من الناحية الشرعية وأعدتها له مع ردود شرعية. أبلغت بعض الأمراء الحاضرين (في المنطقة الثانية) برفضي تلك البيانات. لم يكن زيتوني يستطيع ارغامي على تطبيقها. لكنه بدأ يتصرف بشدة مع بعض الأمراء الذين لا يجد لديهم سنداً قوياً من قواعدهم، ويأخذ في حقهم قرارات بالتحويل أو العقوبة القاسية وأحياناً القتل. كان يقوم بتلك الأمور خفية عني لأنه يخافني. وكان في الحقيقة لا يُجري لهم محاكمات حقيقية بل اغتيالات. فقد كان في «الكتيبة الخضراء» التابعة لزيتوني أفراد يثقون بي بحكم معرفتهم بأنني متدين ولا أقدم على أمر سوى بعد معرفة رأي الشرع فيه. كان هؤلاء يعطونني أخباراً سرية ويقولون إنهم نفّذوا هذا العمل أو ذاك بناء على توجيهات زيتوني وخوفاً منه. وعندما كنت أسمع بأمر ما كنت أصعد إلى عند زيتوني وأطلب عقد حلقة (جلسة) رسمية. لم يكن كثيرون من أعيان الجماعة حاضرين، فكثير من هؤلاء من مناطق بعيدة. وكان زيتوني قد أضاف إلى عضوية الأعيان أفراداً من حاشيته والمحسوبين عليه، وسعى هؤلاء الى تعزيز وضعهم في مجلس الأعيان وتحكموا فيه وأداروا الجماعة مثلما يريدون. كنتُ الفرد الوحيد من الأعيان من المنطقة الثانية وكنت معارضاً دائماً له. فعلى رغم معرفتي بخطورتهم، إلا أنني كنت أعرف وزني أيضاً وأعرف أنني قادر على ممارسة ضغط عليهم. وكما قال لي بعض من حضر الجلسات التي عُقدت في غيابي، كان زيتوني يقول إنه لا يمكنه أن يُرغم حسان على القيام بأمر ما إذ أن «الجيا» يمكن أن تتفكك بدونه. كان يقول إنه لو ذهب حسان فإن الإمراء سيفقدون الثقة (بالجماعة)، وبالتالي فإنه قادر على خسارة العديد من الأمراء شرط ألا يخسر حسان. وفعلاً حاول أن يكسبني بكل طريقة. كنت أعرف جبروته وطغيانه، وعلى رغم ذلك فقد كان يستجيب لي ما أطلب منه خلال اللقاءات بيننا. ولكن على رغم ذلك، فقد كنت محتاطاً منه خشية أن يُغدر بي».
No comments:
Post a Comment