المحكمة الجنائية: ليبيا متعاونة في قضية سيف الإسلام لم نفشل في السودان... ومسار العدالة «البطيء» يقود إلى
تدخلت المحكمة الجنائية الدولية في النزاعات الداخلية في كل من السودان وليبيا، وأصدرت مذكرات توقيف بحق مسؤولين في البلدين على رأسهم الرئيس عمر والعقيد الراحل معمر القذافي. لكن المحكمة، على رغم المناشدات، لم تتدخل لا في النزاع السوري، حيث سقط حتى الآن آلاف الضحايا في الثورة ضد نظام الرئيس بشار الأسد، ولا في قطاع غزة الذي خضع ويخضع منذ سنوات لتدمير واغتيالات تقوم بها إسرائيل. فهل هناك «ازدواجية معايير» تسمح للمحكمة بالتدخل في نزاعات لا في أخرى؟ وما هو موقف المحكمة من النزاع حول مكان محاكمة سيف الإسلام القذافي وقريبه عبدالله السنوسي؟ وهل تُقر المحكمة بفشلها في توقيف الرئيس السوداني بعد سنوات من مذكرة اعتقاله التي بقيت حبراً على ورق؟ هذه التساؤلات يجيب عنها الناطق باسم المحكمة الجنائية فادي العبدالله في الحوار الآتي مع «الحياة»:
> هل هناك نزاع الآن بينكم وبين ليبيا في قضية محاكمة سيف الإسلام والسنوسي بعدما توفي المطلوب الثالث معمر القذافي؟
- هناك انطباع بأن ثمة نزاعاً بين المحكمة الجنائية وبين ليبيا في قضية سيف الإسلام القذافي. الواقع أن السلطات الليبية تقدمت بطلب منصوص عليه في معاهدة روما، التي تأسست بموجبها المحكمة الجنائية. ووفق نظام روما، هناك مبدأ التكامل، الذي يعني أن القضاء الوطني له الأولوية، وأن المحكمة الجنائية تتدخل عندما يكون القضاء الوطني غير قادر أو غير راغب في إجراء محاكمات جدية للمشتبه به للأعمال الجرمية نفسها المدعى عليه بها أمام المحكمة الجنائية، وبالتالي فإن السلطات الليبية في حالة تعاون مع المحكمة في قضية سيف الإسلام. ولكن هذا يعني أن على السلطات الليبية أن تقدم أدلة وإثباتات على تطور التحقيقات معه وسيرها، وإثباتات على قدرة القضاء الوطني على إجراء الملاحقات.
السلطات الليبية قدمت عدداً من الوثائق والمستندات في هذا الخصوص. وقبل أسابيع عرضت السلطات الليبية أمام المحكمة تطورات التحقيق وطلبت مهلة إضافية في انتظار تشكيل الحكومة الجديدة. اتخذ محامو الدفاع موقفاً مغايراً وقالوا إن السلطات الليبية غير قادرة وإن القضاء الوطني ليس لديه الإمكانات والسلطات الكافية ليتمكن من إجراء الملاحقات. أما جهة الادعاء العام (فاتو بن سودة) فتركت الأمر في يد القضاة، لكنها قالت إنه إذا أراد القضاة أن يُقروا الطلب الليبي، فإن بالإمكان أن يكون هناك آلية لمراقبة سير التحقيقات للتثبت من قدرة القضاء الوطني وجديته في الملاحقة، وأنه إذا تبيّن عكس ذلك فتمكن إعادة فتح القضية أمام المحكمة الجنائية والمطالبة بتسليم سيف الإسلام.
> هل تضمن ملف السلطات الليبية، مثلاً، تطورات التحقيق مع سيف الإسلام وما إذا كان يتم بحضور محامين له، إضافة إلى أسماء شهود إثبات الجريمة؟
- هم قدموا عرضاً لسير التحقيق، ومن هم الأشخاص المكلّفون بالملف في مكتب المدعي العام الليبي، وما عدد جلسات الاستماع التي تمت، سواء مع الشهود أو مع سيف الإسلام نفسه، وعرض لموضوع قضية من يمثّل سيف الإسلام...
> من يمثله؟
- جزء من الملفات يرتدي طابع السرية ويعود كشفه إلى السلطات الليبية. لكن أمام المحكمة الجنائية الدولية مثّل سيف الإسلام محاميان من مكتب الدفاع الملحق بالمحكمة (ثمة جدل قانوني حالياً في شأن طلب المحكمة الجنائية تغييرهما بناء على طلب السلطات الليبية). ولكن الأمر مختلف في ليبيا، فهناك قواعد تُحدد متى يمكن المتهم أن يكون مع محامي الدفاع ومتى يسمح بالتحقيق في ظل عدم وجود محامي دفاع.
> ألا يطرح هذا الأمر مسألة المعايير. هل تقبل المحكمة الجنائية التحقيق مع متهم من دون حضور محاميه؟
- بعض الوثائق الليبية يحمل طابع السرية وليس لي حق الاطلاع عليها. إنما الذي فهمته من المطالعات الليبية أن النظام القانوني الليبي يسمح بثلاث مراحل: مرحلة التحقيق الأوّلي وتكون بدون وجود محام، والمرحلة الثانية مع وجود محام، والثالثة هي مرحلة المحاكمة. ويعود لقضاة المحكمة الجنائية الآن أن يقرروا ما إذا كانت هناك إمكانية لإجراء محاكمة جدية وعادلة في ليبيا أم لا. فإذا قرروا بالإيجاب يكون الملف قد عاد إلى الجانب الوطني الليبي. وإذا قرروا رفض الطلب، فالمحكمة ستطلب مجدداً تسلّم سيف الإسلام من السلطات الليبية. وهذا الأمر ينطبق على موضوع عبدالله السنوسي، إذ أبلغت السلطات الليبية المحكمة أنها ستقدم طلباً مشابهاً لما قدمته في موضوع سيف الإسلام.
> هل المحكمة الجنائية تنظر في الاتهامات لسيف الإسلام والسنوسي فقط في ليبيا، أم أن هناك قضايا أخرى؟
- المدعية العامة قالت لمجلس الأمن أخيراً إنها تدرس قضايا أخرى في ليبيا إضافة إلى تهمة الجرائم ضد الإنسانية ضد سيف الإسلام والسنوسي. قالت إن هناك موضوع الاغتصابات التي حصلت، والاعتداءات ضد الأفارقة ذوي البشرة السوداء (للاشتباه في أنهم مرتزقة للقذافي)، والهجوم على تاورغاء (طرد ثوار مصراتة أهلها لمساندتهم القذافي). قالت المدعية إنها تنظر في عدد من الجرائم المحتملة وستقدم طلباً قريباً بفتح قضية أخرى ستكون واحدة من هذه القضايا الثلاث.
> في السودان أصدرتم أمرين بالقبض على الرئيس البشير، لكنكم فشلتم في توقيفه على رغم سفراته المتكررة خارج السودان؟
- المحكمة ليس لديها جيش لتهاجم الخرطوم وتقبض على المتهمين (هناك متهمون آخرون إلى جانب البشير). ما تستطيعه المحكمة هو أن تطلب من الدول اعتقال المتهمين إذا زاروا أراضيها. في هذه الحالة يمكن المحكمة الدولية أن تلقي القبض على البشير نتيجة تعاون الدول الأعضاء في نظام روما (121 دولة). لكن الدول غير الأعضاء في هذا النظام ليس لديها واجب قانوني أن تقبض على هؤلاء الأشخاص، بل قد تقرر التعاون طوعاً مع المحكمة.
> لكنكم فشلت؟
- ما حصل حتى الآن هو أن المشتبه بهم ما زالوا فارين من وجه العدالة. لكن تجارب مماثلة، مثل المحكمة الخاصة بيوغوسلافيا (السابقة)، تدل على أن هناك أشخاصاً ظلوا فارين من وجه العدالة لفترة 14 أو 15 سنة، لكنهم في نهاية المطاف أصبحوا في لاهاي. بعد حوالى 17 عاماً من إنشاء محكمة يوغوسلافيا لم يعد هناك أي أمر اعتقال صادر عنها لم يُطبق أو ينفذ. وبالتالي يمكن القول إن سير العدالة قد يكون بطيئاً لكنه يصل في نهاية المطاف.
> لماذا لا تنظر المحكمة في قضية سورية؟
- اختصاص المحكمة يسري على الدول الأعضاء في نظام روما. الاستثناء عن هذه القاعدة أن يكون هناك قرار من مجلس الأمن يلزم الدولة التعاون مع المحكمة. هذا ما حصل في الموضوع الليبي والسوداني. موضوع سورية مشابه لموضوع ليبيا قبل صدور قرار مجلس الأمن. فسورية (مثل ليبيا) ليست منضمة إلى نظام روما الأساسي، وبالتالي المحكمة ليس لديها الاختصاص القانوني لأن تفتح تحقيقاً. فهذا جزء من احترام سيادة الدول. وبما أن سورية لم تنضم إلى نظام روما ومجلس الأمن لم يحل قضيتها علينا، فإننا عاجزون عن فتح تحقيق.
> ولماذا لا تتدخلون في ما يحصل في غزة من تدمير إسرائيلي متكرر؟
- في الموضوع الفلسطيني ليس هناك قرار من مجلس الأمن، ودولة إسرائيل ليست منضمة إلى قانون روما الأساسي، وبالتالي فالمحكمة ليس لديها الاختصاص. لكن الحكومة الفلسطينية في رام الله قدمت إلى المحكمة إعلاناً بقبولها اختصاص المحكمة، وهذا الأمر وراد في نظام روما الأساسي الذي ينص على أن الدول يمكنها أن تمنح المحكمة صلاحية التحقيق في ما يجري على أراضيها حتى من دون الانضمام إلى المعاهدة بل بمجرد إعلان يصدر عن الحكومة نفسها. ولكن النقطة المفصلية: هل الطلب الفلسطيني صادر عن دولة؟ المدعي العام بعدما نظر في الموضوع وتلقى عشرات الآراء القانونية من خبراء، خلص إلى نتيجة هي أنه كمدعٍ عام لديه الصلاحية في أن يحقق في الجرائم وأن يدعي ولكن ليس لديه الصلاحية في أن يبت هل هذه السلطة هي دولة أم لا عندما يكون هناك نزاع حول هذا الموضوع، فقال إن تقرير هذا الأمر يعود إما إلى الأمم المتحدة (التي منحت فلسطين الآن صفة الدولة غير العضو) أو إلى جمعية الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي. وإذا ما قررت إحدى هاتين الهيئتين بأن الحكومة الفلسطينية تمثّل دولة مستقلة، ففي هذه الحالة يمكن المحكمة الجنائية أن تقبل الإعلان وأن تفتح التحقيق.