Wednesday 20 January 2016

الاسكندرية في «فوضى جميلة» تطوي «تظاهرات الإخوان»

الاسكندرية في «فوضى جميلة» تطوي «تظاهرات الإخوان»

http://www.alhayat.com/Articles/13532078

 

من الاحتجاجات التي شهدتها الإسكندرية بعد عزل مرسي. (من مواقع التواصل الاجتماعي)
النسخة: الورقية - دولي الأربعاء، ٢٠ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٦ (٠٠:٠٠ - بتوقيت غرينتش)
آخر تحديث: الأربعاء، ٢٠ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٦ (٠٠:٠٠ - بتوقيت غرينتش) الاسكندرية – كميل الطويل 
كانت السيارات تقف في طوابير لا نهاية لها في شوارع الاسكندرية الساحلية شمال مصر، فيما الأرصفة مكتظة إلى آخرها بالمارة. عشرات الآلاف، على أقل تقدير، كانوا يسيرون يميناً ويساراً في فوضى عارمة. هذه منقّبة، وتلك سافرة، وبينهما محجّبة. رجال ملتحون بهندام يوحي بانتمائهم السلفي الأكيد، أو بـ «زبيبة» «تزيّن» جباههم وتؤكد «التزامهم» الإسلامي، فيما التحف آخرون بزيّ شعبي «بلدي»، وارتدى غيرهم ملابس «على الطراز الغربي». كان شرطي المرور يحاول جاهداً تنظيم حركة السير، فيما المارة يتنقلون من ضفة شارع إلى الضفة المقابلة بالقفز بين سيارات رابضة في أماكنها بلا حراك.
على رغم هذه الفوضى الواضحة، كان المشهد جميلاً في الواقع. فالمدينة تضج بالحياة. الشرطي يقوم بواجبه (المستحيل!) في تنظيم السير. رجال أمن آخرون ينظّمون محاضر ضبط في حق سيارات متوقفة في شكل مخالف في شوارع رئيسية. الباعة يعرضون سلعهم بينما آلاف المتسوّقين يجولون في الأسواق بحثاً عن مبتغاهم، في حين يتكدّس الموظفون والطلاب والمسافرون في القطارات أو «الترامواي» أو سيارات النقل للوصول إلى مقرات عملهم أو مدارسهم وجامعاتهم.
ولكن لماذا هذا الوصف، وأين «الجمال» فيه؟
ربما كانت هذه المقدمة، في الواقع، ضرورية، لأنها تصف الحياة في شوارع وأحياء مهمة في الإسكندرية مثل سيدي بشر والرمل وسيدي جابر. و «جمال» الحياة في هذه الأحياء مرتبط تحديداً باكتظاظ الحركة فيها – حتى الجنون – كونها كانت قبل شهور فقط «ساحات حرب» يتقاتل فيها مناصرو جماعة «الإخوان المسلمين» المحظورة حالياً مع معارضيهم من أنصار قائد الجيش السابق الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي. والحقيقة أن ليس من المبالغة في شيء الحديث عن أن تلك الشوارع في الإسكندرية كانت فعلاً ساحة قتال بين الطرفين، فأشرطة الفيديو ما زالت متاحة وبسهولة على موقع «يوتيوب» لمن يريد استعادة ذكريات تظاهرات «الإخوان» عقب عزل الرئيس السابق محمد مرسي في صيف 2013، وهي تظاهرات شاركت فيها في البداية حشود ضخمة من مناصري الجماعة، وتخللها إطلاق نار وعمليات حرق واتلاف للمتاجر والسيارات، وحتى جرائم قتل.
قال سائق التاكسي: «هنا حصلت الجريمة»، مشيراً إلى عمارة في ضاحية سيدي جابر قتل فيها مناصرون لـ «الإخوان» مشتبه بهم صبيين مراهقين برميهما من على سطحها (فيديو الجريمة ما زال موجوداً على «يوتيوب»). ثم أضاف: «نقف الآن في ساحة الحرب السابقة. من هذا الاتجاه كان مناصرو الإخوان يأتون ليجدوا أمامهم أنصار السيسي، فتدور المواجهات بينهم، وتشتعل المدينة».
على رغم أن هذه الأحداث لم يمر عليها زمن طويل، إلا أن آثارها اختفت كلياً- أو تكاد– من شوارع الإسكندرية اليوم. فالمدينة تعج بالحياة، وتظاهرات «الإخوان» لم يعد لها وجود، بل إن الجماعة نفسها تبدو مفككة، بل هناك من يقول صراحة إنها تكاد تختفي كجماعة منظمة في الساحة المصرية. فآلاف من قادتها ومناصريها في السجون، وقلة من عناصرها البارزة انتقلت إلى المنفى، في حين أن جموعاً لا بأس بها من المناصرين- كما هو واضح من الحياة العادية التي تشهدها شوارع «ساحات المعارك» السابقة في الإسكندرية– اختاروا طي صفحة «مرسي رئيسي» والتعايش مع واقع جديد يتمثل في حكم «مدني» … يقوده «عسكري». ولا شك أيضاً في أن هناك آخرين من «الإخوان» ممن اختاروا الرد على عزل مرسي بالانخراط في أعمال عنف مسلح، وهو مجال تهيمن عليه حالياً تنظيمات أكثر تشدداً مثل فرع «داعش» المصري (وتحديداً «ولاية سيناء» التابعة لتنظيم «الدولة الاسلامية» في العراق وسورية).
كانت هذه القضية – التطرف والإرهاب المرتبط بجماعات مسلحة تنشط تحت مسميات إسلامية – محور نقاشات مستفيضة شهدتها «مكتبة الإسكندرية» العريقة، وشارك فيها عشرات المفكرين والباحثين والمتخصصين من دول عربية وأجنبية. لم يتوان كثيرون من المشاركين، وتحديداً من مصر، في اتهام «الإخوان» بأنها الجماعة التي خرجت من رحمها جماعات العنف على اختلافها، مستندين إلى كتابات مؤسسي «الإخوان» وقادتهم البارزين – مثل الراحلين حسن البنا وسيد قطب – وفيها دعوات تبدو صريحة إلى تغيير المجتمع بالقوة، وفق ما قال الدكتور رفعت السعيد (حزب «التجمع» اليساري). في المقابل، أكد عدد من مشايخ الأزهر، مثل الشيخ أحمد تركي، أن عنف الجماعات المسلحة ينطلق من فهم خاطئ لتعاليم الدين الإسلامي، مشددين على دور الأزهر في إظهار تسامح الإسلام ووسطيته والتصدي للأفكار التي يروجها معتنقو الأفكار المتشددة، لا سيما تنظيم «داعش». أما مدير مكتبة الإسكندرية الدكتور إسماعيل سراج الدين فقدم، من جهته، رؤية معمقة لكيفية التصدي لـ «صناعة التطرف» شرحها في كتاب من 314 صفحة بعنوان «التحدي». وجادل سراج الدين في رؤيته هذه بأن الجماعات المتطرفة يمكن أن تواجه بسلاح الثقافة، مشيداً بدور الشباب في ثورات «الربيع العربي» في العام 2011، لكنه انتقد الجماعات الدينية المنظمة لسيطرتها على هذه الثورات، ما ساهم في نشوء أزمات في بلدان عدة وصلت إلى حد الحرب الأهلية.
وعلى رغم أن شريحة واسعة من المتحدثين في النقاشات حمّلت تيار الإسلام السياسي عموماً جزءاً كبيراً من المسؤولية عما تشهد الدول العربية من أزمات ونكبات، إلا أن هناك عدداً آخر– مثل عُريب الرنتاوي (مركز القدس– عمّان)- أصر على أن لا حل على المدى الطويل لمشكلات الدول العربية إذا تمسكت الأنظمة الحاكمة بإغلاق الباب أمام تيارات «الاسلام السياسي». كما جادل آخرون بأن الأنظمة هي التي تتحمّل مسؤولية «صناعة التطرف» نتيجة «سياسات التعذيب في سجونها التي تفرّخ إرهابيين». كما جادل بعضهم بأن مواجهة التطرف والإرهاب لا يمكن أن تعتمد فقط على أسلوب القمع الأمني، بل هي «مواجهة سياسية وتنموية، قبل أن تكون أمنية فقط»، على ما قال الدكتور عماد عبدالغني. وفي الإطار ذاته، جادل الدكتور محمد أبو حمّور الأمين العام لـ «منتدى الفكر العربي» في الأردن، بأن «التشدُّد يُنتج تشدداً، والتطرف يفرز تطرفاً، وكلاهما صانع للإرهاب والعنف».
لكن، بين خيار أنظمة صارمة يهيمن عليها العسكر وقد لا تكون ديموقراطية تماماً، وبين خيار الفوضى التي تحل محل هذه الأنظمة عندما تسقطكما ظهر من ثورات «الربيع العربي»- تبدو شرائح واسعة من الشارع العربي- والمصري تحديداً- ميالة إلى تفضيل وجود دولة، وإن كانت بوليسية، على ألا تكون هناك دولة بالمرة أو دولة تعاني نزاعات وحروباً أهلية و «جماعات تكفيرية»، كما يحصل حالياً في ليبيا وسورية.
ويشارك في هذا الرأي إسلاميون بارزون، كالدكتور ناجح إبراهيم الذي قضى سنوات طويلة في السجون المصرية على خلفية دوره في قيادة «الجماعة الإسلامية» التي شنت حرباً دامية في الثمانينات والتسعينات لإطاحة حكم الرئيس السابق حسني مبارك. يقول إبراهيم إن إحدى المشكلات الأساسية التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي حالياً هي مشكلة تفشي «التكفير»، موضحاً إن «القاعدة وداعش وأنصار بيت المقدس وأنصار الشريعة يكفّرون بالجملة … لكن داعش هو أكثر المجموعات تكفيراً». ويعزو ذلك إلى «سوء فهمهم للنص الشرعي».
شارك إبراهيم في جلسات مؤتمر «صناعة التطرف» في مكتبة الإسكندرية، وعلى هامشها قرر أن يأخذني في جولة سيراً على الأقدام في المدينة، حيث كان المارة يُلقون عليه السلام كلما التقوا به. بدا في الواقع كأنه أشهر من نار على علم. فالجميع يعرفه. طلاب الجامعات، رواد المساجد، الباعة والمتسوقونوحتى ضباط الشرطة. جميعهم صافحه، وهو رد على التحية بمثلها، مع الجميع. فصفحة العنف المسلح، كما يبدو، باتت شيئاً من الماضي لديه. سنوات السجن الطويلة– بما فيها جلسات تعذيب لا تُحصى، كما يقول– غيّرته إلى غير رجعة. لم يتغيّر، كما يؤكد، بسبب التعذيب، بل نتيجة مراجعته للنصوص الدينية فاقتنع بخطأ منهج استخدام العنف كوسيلة لتغيير النظام في بلد كمصر. وهو يعبّر علناً، حالياً، عن مواقف تدين الإرهاب والعنف، وبالخصوص ما يقوم به تنظيم «داعش» وفرعه المصري الناشط في سيناء على وجه الخصوص.