Thursday 30 September 2010

الوجه الآخر لـ «القاعدة» (الحلقة الأخيرة

الوجه الآخر لـ «القاعدة» (الحلقة الأخيرة) ... «القاعدة» الهامشية في حرب أفغانستان تقود من وزيرستان معركة «عولمة الجهاد»
الخميس, 30 سبتمبر 2010
لندن - كميل الطويل
حاولت الحلقات الخمس السابقة من هذه السلسلة تقديم صورة لتنظيم «القاعدة» ربما تكون مختلفة عن تلك التي يعرفه بها كثيرون، سواء من أنصاره أو معارضيه. فقد كان هدفها، منذ البدء، تلمّس ملامح «الوجه الآخر» لتنظيم أسامة بن لادن وطريقة خوضه «حربه العالمية» ضد الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، واستخلاص ما حلّ بهذا التنظيم بعد تسع السنوات من الملاحقات التي لا هوادة فيها ضده.

لم يُخفِ السيد نعمان بن عثمان، القيادي الإسلامي الليبي الذي اعتمدت السلسلة اعتماداً أساسياً على معلوماته بحكم معرفته بقادة «القاعدة» وعلاقته بكثير من اللاعبين الكبار في الساحة «الجهادية»، أنه يحمّل تنظيم أسامة بن لادن مسؤولية كثير من المصائب التي حلّت بالأمة الإسلامية ومسؤولية كثير من التشويه الذي لحق بصورة الإسلام، خصوصاً في الغرب. والأرجح أن ابن عثمان، القيادي السابق في «الجماعة المقاتلة» والمحلل حالياً في معهد «كويليام» البريطاني لمكافحة التطرف، أباح الآن بجزء مما يعرفه عن «أسرار القاعدة» لأنه يعتقد أنه بكشفه هذه المعلومات – التي يؤكد أنها ليست أسراراً وأن أجهزة الأمن الغربية تعرف بالتأكيد أكثر منها بكثير - يسمح للذين يؤيدون «حروب القاعدة العبيثة» بأن يراجعوا مواقفهم بعد أن يطّلعوا على «حقيقة» التنظيم من الداخل. فما تقوم به «القاعدة»، بحسب وجهة نظره، ليس «جهاداً»، وهو يريد أن يشرح ذلك لمن يريد أن يعرف. وهكذا جاءت فكرة سلسلة «الحياة» عن «القاعدة» و «وجهها الآخر».

كشفت السلسلة، حتى الآن، أن «القاعدة» لم تكن تعرف تماماً عواقب عملها في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وأن قيادتها نفّذت «الغزوة» ضد نيويورك وواشنطن على رغم المعلومات الكثيرة التي تؤكد معارضة قيادة حركة «طالبان» لذلك، وعلى رغم المعارضة الداخلية حتى في أوساط «القاعدة» من القياديين الذين اعتبروها «معصية» لتعليمات الملا عمر، المفترض أن بن لادن قد بايعه على السمع والطاعة. كذلك ظهر في السلسلة أن التنظيم قد سار في ضربته على رغم أنه لم يكن قد نجح بعد في الحصول على «سلاح الردع» الذي كان يتصوّر أنه «سيمنع» الأميركيين من ضرب أفغانستان. كما كشفت أن بن لادن أخطأ في تقدير أن باكستان لن تقف في حلف مع الأميركيين ضد تنظيمه وضد «طالبان».

أما بالنسبة إلى «معارك القاعدة» خلال الغزو الأميركي أفغانستان، فقد كان واضحاً من السلسلة أن التنظيم قد فشل في معركتيه الأساسيتين اللتين استعد لخوضهما في قندهار وتورا بورا، في حين أنه لم يتمكّن من توفير مقاتلين، على رغم وعده بذلك، للدفاع عن العاصمة كابول، وهي المعركة التي قادها «جهاديون» آخرون لا ينتمون إلى «القاعدة».

تناولت الحلقات كذلك ما حل بالتنظيم بعد الضربة الأميركية، وكيف انحصرت قيادته في «المثلث» الأفغاني – الباكستاني – الإيراني، لكنها على رغم ذلك تمكنت من الانتشار حول العالم من خلال «وكالات» لتنظيمات «جهادية» ليس لـ «القاعدة» أي فضل في تأسيسها. ففي العراق، ورثت «القاعدة» جماعة «التوحيد والجهاد» بقيادة أبي مصعب الزرقاوي واستفادت من شبكاتها لمحاولة مد نفوذها إلى بقية دول المشرق العربي (بلاد الشام وبلاد الرافدين) ولكي يكون لها أيضاً «نقطة احتكاك مباشر» مع ساحة المواجهة الأساسية ضد إسرائيل. حاولت «القاعدة» أيضاً البناء على تنظيمات موجودة أصلاً لمد نفوذها إلى «أرض الكنانة» من خلال تكليف قيادي في «الجماعة الإسلامية» المصرية محاولة بناء فرع لها هناك. أما في المغرب العربي، فقد تمكنت «القاعدة» كذلك من «وراثة» تنظيم «جهادي» موجود أصلاً هو تنظيم «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» في الجزائر، ثم تمكنت من استقطاب جناح في «الجماعة الإسلامية المقاتلة» الليبية يضم أساساً عناصرها الموجودين في مناطق الحدود الأفغانية – الباكستانية (في الحقيقة لم يكن أمام هؤلاء خيارات كثيرة أخرى غير الانضمام). وفي الخليج العربي، حاولت «القاعدة» أيضاً مد نشاطها من خلال «قاعدة بلاد الحرمين» ثم «قاعدة جزيرة العرب». أما في القرن الأفريقي، فقد سعت «القاعدة» إلى التمدد هناك من خلال التحالف مع جماعة صومالية هي «حركة الشباب المجاهدين»، وإن كان هذا التحالف لم يصل حتى اليوم إلى درجة تحوّل «الشباب» رسمياً إلى فرع للتنظيم في شرق أفريقيا.

وكما ظهر جلياً في السلسلة من خلال عرض العلاقة المعقّدة لـ «القاعدة» بفروعها، فإن تلك العلاقة جاءت بمنافع بلا شك إلى تنظيم بن لادن، لكنها جرّت أيضاً كثيراً من المصائب. ولعل المنفعة الأكبر كانت في أن الفروع ساعدت «قيادة القاعدة» في إثبات أنها تمكّنت من امتصاص الضربة الأميركية، وأنها بدل أن تنكمش وتنحصر تمكنت من التوسع والانتشار. أما الضرر الأكبر فتمثّل ربما في اضطرار «القاعدة» إلى تحمّل مسؤولية أفعال فروعها، سواء رضيت بذلك أم لم ترضَ. فتجربة الزرقاوي في العراق، مثلاً، من قتل عشوائي ومذابح جماعية وقتال لبقية تنظيمات «المقاومة» (السنّية) وتكفير جزء كبير من المجتمع («الروافض») كانت كلها تدل على شكل «الدولة الإسلامية» التي تسعى «القاعدة» إلى إقامتها في «بلاد الرافدين». في واقع الأمر، حاولت «قيادة القاعدة» مراراً أن تنصح الزرقاوي بتليين مواقفه، لكنها في النهاية تعرف بلا شك أنها تتحمل مسؤولية أفعال «أميرها» في العراق. وقد تكرر هذا الأمر نفسه مع «قاعدة بلاد الحرمين» حيث تبيّن لِبن لادن، كما يقول ابن عثمان، أن تفجيرات تنظيمه في السعودية لم تؤدِّ سوى إلى تنفير الناس من ممارساته، فاضطر إلى وقف عملياته بعدما كانت أجهزة الأمن قد هزمته عسكرياً وفككت معظم خلاياه. أما في المغرب العربي، فقد تبيّن أيضاً أن ممارسات «الجماعة السلفية» - التي تحوّلت إلى فرع لـ «القاعدة» - نفّرت بدورها كثيرين من الناس العاديين خصوصاً بعدما صارت تقوم بتفجيرات في قلب العاصمة وتثير الرعب في أوساط عامة الشعب الخارج للتو من أتون حرب أهلية مدمّرة خلال حقبة التسعينات. وربما نتيجة لهذا التململ الشعبي من عمليات «القاعدة» في الجزائر، اضطر الفرع المغاربي للتنظيم إلى نقل نشاطه الأساسي إلى الساحل الصحراوي وصار يعتمد في الأساس على أسلوب خطف الرعايا الغربيين من أجل مبادلتهم غالباً بفديات مالية، في تصرف لا يراه كثيرون مختلفاً كثيراً عن أعمال عصابات الجريمة المنظّمة.

وإذا كان هذا، باختصار، وضع «فروع القاعدة» في أنحاء العالم بعد 9 سنوات من هجمات 11 سبتمبر، فما هو وضع «القيادة العامة» لـ «التنظيم الأم» المفترض أن كل هذه الوكالات تدين بالولاء له؟ هذا ما ستحاول الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة تقديم إجابة عنه.

< مما لا شك فيه، بداية، أن تنظيم «القاعدة» على رغم انتشار فروعه حول العالم، ما زال يحتفظ بقيادته، منذ نهايات عام 2001، في منطقة المثلث الأفغاني – الباكستاني – الإيراني. وبصرف النظر عن النكسات أو النجاحات التي تحققها فروع التنظيم، إلا أن الواضح أن «القيادة العامة» قد وضعت لنفسها استراتيجية متعددة الأهداف - مختلفة عن استراتيجيات فروعها - تسعى إلى تحقيقها في المرحلة المقبلة. والهدف الأول والأساسي لهذه الاستراتيجية - أو «التصوّر»، بحسب رأي ابن عثمان - هو «عولمة الجهاد»، كما يظهر خصوصاً من الرسائل الكثيرة التي يوجّهها قادة التنظيم ومنظّروه في شبكة الانترنت، وهي وسيلة تسمح للتنظيم بأن يعوّض عن عدم تمكنه من التواصل المباشر مع الشريحة التي يريد أن يتصل بها مباشرة. ويعتبر ابن عثمان أن «القاعدة لا تملك استراتيجية بمعناها العسكري والتقني. كل ما لديها هو رؤية وتصوّرات عامة، وفي بعض الأحيان رؤية مرحلية مشوشة. لقد فشلت القاعدة حتى الآن في وضع استراتيجية عسكرية لقيادة الحرب والصراع». ويلفت إلى أن الاستراتيجية تُفكك إلى مراحل أو أهداف مرحلية، أو ما يُعرف بالتكتيك، وأهم شيء فيها هو إمكان تطبيقها على أرض الواقع بعد حشد كل الإمكانات المتاحة لذلك. ويقول: «فشلت القاعدة في ذلك، مثلما فشلت كل الجماعات الجهادية من قبلها».

وليس واضحاً، في الحقيقة، متى اعتمدت «القيادة العامة» لـ «القاعدة» رؤيتها الجديدة التي يشرحها الليبي بالتفصيل، لكنها على الأرجح لم تبدأ في ترتيب أولوياتها وتحديد أهدافها وفق هذه «الاستراتيجية» سوى بعدما بدأت غبار المعارك تنجلي في أفغانستان. فقد تمكنت «طالبان» خلال السنوات التسع الماضية من استعادة وجودها في ساحة الصراع، بعدما كانت قد انكفأت في المواجهة الأولى. ومع عودة «طالبان»، بدأ العرب بدورهم يعيدون ترتيب أنفسهم بعدما كانوا قد انكفأوا إثر هزيمتهم العسكرية عام 2001 وانتشروا خصوصاً في مناطق القبائل الباكستانية. ويقول ابن عثمان في هذا الإطار: «الواضح أن «القاعدة» نجحت على مدى السنوات الممتدة من عام 2001 في دمج جميع العرب في أفغانستان في إطار تنظيمها. لم يعد في الإمكان أن يذهب متطوع إلى «الجهاد» ليلتحق بجبهات القتال في أفغانستان إذا لم ينضو تحت لواء «القاعدة»، وهذا أمر بالغ الأهمية لأن هناك حركة التحاق لافتة من العرب بجبهات أفغانستان، خصوصاً خلال السنتين الماضيتين. أصبحت «القاعدة» الآن الوعاء الوحيد الذي يستوعب العرب القادمين لـ «الجهاد»، وهذا أمر يعطيها بلا شك موقعاً أهم في أي نقاش مقبل مع «طالبان» عندما تنقشع غبار المعارك».

وواضح أيضاً أن «القاعدة» تعرف أنها لا تمثّل أي ثقل عسكري في موازين القوى في المعركة داخل أفغانستان، إذ إن القتال يخوضه الأفغان أنفسهم ضد القوات الأميركية والحكومة الأفغانية. ويوضح ابن عثمان أن «القاعدة تعتبر ما يحصل في أفغانستان حالياً – كما هو واضح من أدبيات التنظيم وبياناته – تمرداً ضد حكومة حامد كارزاي وقوات حلف شمال الأطلسي يقوم به طرفان: المقاتلون التابعون مباشرة لـ «الإمارة الإسلامية» بقيادة حركة «طالبان»، أو الأنصار وهم المقاتلون الذين يشنون هجمات ضد الأميركيين وقوات الحكومة الأفغانية من دون أن يكونوا أعضاء مرتبطين مباشرة بطالبان».

وهذا الأمر يختلف في شكل جذري عن نظرة العرب إلى أفغانستان خلال حقبة الجهاد الأولى ضد السوفيات ثم ضد حكومة نجيب الله الشيوعية في كابول. آنذاك كان العرب يلتحقون بسبعة فصائل من فصائل المجاهدين الأفغان ويمكنهم أن يلتحقوا بأي منها – مثل حكمتيار ورباني وسيّاف. أما الآن فهناك طرفان لا ثالث لهما: إما «طالبان» وإما الأنصار. وهذا يعكس فهماً معيّناً ينص على أن «طالبان» هم أهل الدار وأهل السلطة وأهل الولاية السياسية، في حين أن الآخرين جميعهم هم أنصار لطالبان. وهكذا يمكن تفادي أي نزاع على السلطة قد ينشب لاحقاً بعد انسحاب القوات الأجنبية – إذ لا يمكن أحداً الآن أن يجادل في حق طالبان في السلطة. الأنصار هم دائماً أنصار لأصحاب الأرض، ولا يمكنهم أن ينازعوهم السلطة عليها».

وعلى رغم أن المقاتلين العرب ليسوا عنصراً مؤثراً في القتال داخل أفغانستان إلا أنهم يشاركون بلا شك في المعارك على جبهات «طالبان»، وإن كان الأرجح أنهم يتركّزون خصوصاً في مناطق «شبكة حقاني» في جنوب شرقي أفغانستان وليس في مناطق الجنوب التابعة مباشرة لـ «شورى كويتا» بقيادة الملا عمر.

أفغانستان ومشروع «القاعدة»

ويعتبر ابن عثمان أن «القاعدة لا تنوي البقاء في افغانستان. ليس مشروعها أن تقيم دولة أو خلافة أو أي شيء من هذا النوع في أفغانستان. هذا واضح من رسائلهم. وضعهم في أفغانستان هو وضع دفاعي. يقولون: إن الوضع في أفغانستان هو احتلال ونحن ننوي تحريرها من الاحتلال. لكن رسائلهم الأساسية التي يتحدثون فيها – من خلال فروعهم وتنظيماتهم - متعلقة بالعالم العربي والشرق الأوسط». ويضيف: «سعت القاعدة إلى تطوير جوهر الصراع الذي تخوضه منذ أن نجحت في استقطاب أبي مصعب الزرقاوي إلى صفوفها في عام 2004. في تلك الفترة وضعت القاعدة رؤية - أو تصوراً - يقوم على الآتي: هناك ضرورة لإثبات وجود القاعدة على خط القضية الفلسطينية، كونها جوهر الصراع في الشرق الأوسط وكون كثير من الانتقادات التي توجّه إليها - منذ ما قبل 11 سبتمبر - أنها تتكلم عن فلسطين لكنها لا تفعل شيئاً من أجلها. لذلك، رأت قيادة القاعدة أن العراق بعدما غزاه الأميركيون في 2003 يمكن أن يكون مركز جذب يسمح لها بمد نفوذها في دول المنطقة، لا سيما المشرق العربي وتحديداً بين الفلسطينيين. وقد ركّزت القاعدة في تلك الفترة على ضرورة ربط ما يحصل في العراق بالأوضاع في سائر بلاد الشام، مثل سورية والأردن ولبنان والمناطق الفلسطينية. ومن خلال هذا الربط يتم تحقيق مد نفوذ القاعدة في إقليم بلاد الشام ويمكن استقطاب الأفراد لبناء شبكات للقاعدة في هذا الإقليم». لكنه يضيف أن «من الأخطاء الجوهرية التي ارتكبتها القاعدة، في هذا المجال، أنها بنت استراتيجيتها على أساس أن الجهاد في العراق بقيادة القاعدة قد تجاوز عنق الزجاجة ولم يعد في الإمكان إيقافه. قالوا عنه إنه «شبّ عن الطوق»، بحسب ما قال أحد قادة القاعدة عما يحصل في العراق، و «لن يضره شيء» مهما حصل. لكن الناظر اليوم إلى هذه الخلاصة يعرف كم كانت القاعدة مخطئة. ولذلك فقد انهار مشروعها في المنطقة كلها بما فيها العراق».

ويشير الإسلامي الليبي أيضاً إلى أن «ما لم تنتبه إليه القاعدة هو أنها دخلت في الدوامة نفسها التي دخلتها في السابق الحركات القومية: الهدف فلسطين، وأي خطاب للقاعدة اليوم لا بد من أن يتضمن تأكيد أن ما تقوم به من معارك هو في سبيل تحرير فلسطين. فكل ما يحصل اليوم من قتال ومن زعزعة للاستقرار في السعودية والأردن ومصر وسورية ولبنان وغزة وغيرها من الأماكن يقولون إنه يحصل لأنهم يريدون أن يكونوا على خط تماس مع الساحة الفلسطينية. ولذلك لا يصح لأي كان أن ينتقدنا أو أن يكلمنا أو يشكك في عملنا أو في أية أخطاء قمنا بها لأن هذا سيؤثر في المعركة الحقيقية مع العدو».

وجود أمني

وبما أن «القاعدة» تعرف أن هدفها الأول هو الشرق الأوسط وأن وجودها العسكري ليس مهماً على صعيد المعارك داخل أفغانستان، فإنها طوّرت طبيعة وجودها في مناطق الحدود الأفغانية – الباكستانية بحيث بات وجوداً أمنياً أكثر مما هو وجود عسكري. ويُلاحظ أن هذا الانتشار يتوزّع خصوصاً بين منطقتين أساسيتين: داخل أفغانستان ومعظم هؤلاء من المقاتلين، وداخل وزيرستان حيث الوجود غالباً ما يكون للقيادات الذين تريد القاعدة أن يكونوا على اتصال مع العالم الخارجي – من خلال توجيه رسائل عبر الانترنت أو الاتصال بأماكن أخرى في العالم بالبريد الالكتروني أو الاتصالات الهاتفية أو حتى إرسال رسائل خطية أو شفوية من خلال رُسل يتولون نقل ما هو مطلوب منهم. ومعلوم أن هذا الوجود في وزيرستان هو الذي يحاول الأميركيون يومياً استهدافه بغارات طائراتهم التي تُدار من بُعد وبلا طيّار. ويعتبر ابن عثمان، في هذا الإطار، أن «القاعدة تريد بلا شك أن تجنّب هؤلاء القادة في وزيرستان خطر أن يُستهلكوا في الحرب في أفغانستان، ربما لأهميتهم من ناحية التواصل الإعلامي». ويُرجّح، في هذا المجال، أن «القاعدة» لديها شبكة من العناصر الذين يتولون متابعة أحداث العالم، سواء من خلال الانترنت أو الصحف أو التلفزيونات، ثم يُعد هؤلاء ملخّصاً يطلع عليه عدد من قادة التنظيم الممكن أن يتولوا الرد أو التعليق.

ويقول ابن عثمان إن «ذلك يعكس فهم القاعدة أنها ليست مهمة عسكرياً في أفغانستان، فهي لا تمثّل سوى نقطة في بحر القتال الذي تخوضه حركة طالبان، وبالتالي فإنها لا تستطيع أن تغيّر مسار معركة مهما دفعت بها من رجال. والحقيقة أن القاعدة تعرف أيضاً أن هدفها – مشروعها – لا يركّز على أفغانستان، ولم يركّز يوماً على هذا البلد. فالقاعدة منذ التسعينات تعتبر مشروعها في الشرق الأوسط، وليس في جنوب وجنوب شرقي آسيا، مهما كان تعاطفها مع قضايا المسلمين في هذه البقعة من العالم». ويلفت ابن عثمان إلى أن «المعركة الثانية المهمة للقاعدة هي المعركة ضد الغرب، وهذه المعركة ليست حركة طالبان طرفاً فيها، باستثناء ما تعلّق بما تعتبره الحركة احتلالاً لأفغانستان من الدول الغربية، وهو نزاع ينتهي بانسحاب هذه الدول من أفغانستان. لذلك فإن القاعدة مضطرة أن تترك عدداً من قادتها للاهتمام بالمعركة الإعلامية ضد الغرب».

والملاحظ أن «القاعدة» قد طوّرت خلال السنوات الماضية أسلوب إرسال التقارير إلى قيادتها، الموجودة غالباً في وزيرستان. وتتعلق هذه التقارير بالأوضاع الميدانية داخل أفغانستان وتشرح أوضاع المعارك ودور العرب فيها والإنجازات التي يتم تحقيقها. وعلى رغم أن هذه التقارير كانت تُرسل إلى القيادة في باكستان، إلا أن معديها كانوا يعملون ميدانياً على الأرض داخل أفغانستان ويُفترض بالتالي أن يكون أميرهم مصطفى أبو اليزيد الذي عُيّن أميراً للقاعدة في بلاد خراسان (أفغانستان وباكستان وبعض أجزاء إيران) قبل أن يُقتل بغارة أميركية في وقت سابق من هذا العام.

وعلى رغم أن أبو اليزيد كان الشخص المفترض أن يتلقى تقارير عناصر «القاعدة» الموجودين على الأرض داخل أفغانستان بصفته أميرهم، إلا أن هناك أدلة على أن التقارير كانت تُرسل إلى قادة آخرين في وزيرستان ربما هم المسؤولون مباشرة عن العمل الميداني. ويلاحظ تقرير مرسل من عضو في «القاعدة» داخل أفغانستان إلى قيادته في وزيرستان أن «كل يوم الوضع أحسن من أمس. والآن الذين يقومون بالعمليات والتحضير لها هم الأنصار بأنفسهم وعوام الناس يساعدون المجاهدين ويخدمونهم ولم يعودوا يخافون مثلما كانوا من قبل وذلك لقوة الطالبان وسيطرتهم على المناطق». وعلى رغم أن تاريخ كتابة التقرير ليس واضحاً، لكن الأدلة تشير إلى أنه أُرسل على ما يبدو في وقت ما من عام 2007، بحسب ابن عثمان الذي يورد مثالاً آخر من تقرير مختلف يتضمن تقويماً ميدانياً للوضع على الأرض: «... أبشركم بكل خير عن الجهاد والمجاهدين في هذه البقاع. فالمناطق المفتوحة كثيرة جداً وتمركز العدو فقط في مراكز الولايات وعلى الطرق الرئيسة. والحمد لله معنويات العدو تنهار يوماً بعد يوم وبدأ الضعف يدب في صفوفهم حسب ما نراه وما يأتينا من أخبارهم». ويتابع كاتب التقرير: «أنا أكتب إليك هذا التقرير ونحن على نيّة الذهاب إلى الخط (أي الجبهة). مع العلم أن الخط يحوط به الطلبة والأنصار من سائر الجهات، والعدو في المنتصف، وقد أخذت دورة كاملة على الخط، فما نمر بمنطقة إلا وهم طلبة أو أنصار».

ويلفت تقرير آخر يعود إلى صيف عام 2008 إلى «(أننا) وجدنا الأنصار يزدادون يوماً بعد يوم وعوام الناس يحبون الطلبة ويتحاكمون إليهم في المنازعات التي تقع بينهم، والاستشهاديون من الشباب يزدادون ويطلبون ويلحّون في تقديمهم العمليات الاستشهادية. أعمارهم ما بين الـ 15 و17 (سنة)، وعندهم حُب كبير للتضحية والفداء». ويكشف هذا التقرير أيضاً أن «القاعدة» لا تكتفي بالمشاركة في القتال داخل أفغانستان بل هي تسعى أيضاً إلى نشر أفكارها «السلفية» بين الأفغان. إذ يتابع كاتب التقرير: «وجدنا الطلبة منظمين جداً ولهم اتصال مع بعضهم بعضاً من مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى قرية، وهناك الحراسات الأمنية في المناطق التي استولوا عليها من الحكومة». ويتابع: «الغنائم تزداد ما بين فترة وأخرى وخاصة من المرتدين. قمنا بواجب الدعوة ولله الحمد فإذا مررنا بأحد المساجد تكلمنا في 3 قضايا: أهمية التوحيد في حياة الإنسان، وشروط قبول العمل الصالح (الإخلاص والمتابعة)، وفضل الجهاد ووجوب نصرة المجاهدين».

«جيش الظل» و «الكتيبة 313»

والملاحظ، في هذا الإطار، أن «القاعدة» أنشأت جهازاً جديداً لقيادة عملياتها داخل أفغانستان وخارجها، انطلاقاً بالطبع من مناطق القبائل وبتنسيق مباشر مع الفرع الباكستاني لحركة «طالبان». وهذا الجهاز هو «جيش الظل» الذي يضم عدداً من المكوّنات أبرزها «الكتيبة 313» التي تربطها تحقيقات أجهزة استخبارات خارجية بعدد من المخططات لتنفيذ هجمات في بعض دول العالم. ولا يُعرف الكثير عن «جيش الظل»، لكن ما يُعرف عن «الكتيبة 313» هي أنها تجمّع للمهاجرين غير الأفغان وعلى رأسهم العرب، وقد جاءت نتيجة توحّد جماعات مختلفة بينها حركة الجهاد الإسلامي ولشكر جانغفي ولشكر طيبة وجيش محمد وكلها جماعات تنشط في داخل باكستان (وكشمير). ولا تهتم هذه الكتيبة فقط بأفغانستان، بل هي تتولى إدارة الصراع في مناطق عدة في العالم، بحسب ما يقول ابن عثمان الذي يشير إلى أنه تناوب على قيادتها أو تولى مسؤوليات رفيعة فيها عدد من القادة «الجهاديين» حتى ممن لم يكونوا أعضاء في «القاعدة» لكنهم التحقوا بها لاحقاً. وبين هؤلاء «أبو الليث الليبي» (الذي قُتل في وزيرستان في كانون الثاني/يناير 2008) وعبدالله سعيد الليبي (قُتل في عام 2009 في وزبرستان أيضاً). ويتولى قيادة هذه الكتيبة حالياً «إلياس الكشميري» الذي تردد أنه قُتل بغارة أميركية في قرية توري خل قرب مدينة مير علي في شمال وزيرستان يوم 14 أيلول (سبتمبر) الجاري. والكشميري جندي سابق في القوات الخاصة الباكستانية ويُزعم أنه متورط في كثير من الاغتيالات أو محاولات الاغتيال التي استهدفت عدداً من القادة الأمنيين الباكستانيين. ويكشف ابن عثمان أن هذه الكتيبة سُمّيت بهذا الاسم تيمّناً بعدد الصحابة (313) الذين شاركوا في «غزوة بدر»، أول معركة بعد نزول الإسلام.

«عولمة الجهاد»

والواضح اليوم أن «القاعدة» تنظر حالياً إلى الصراع الذي تخوضه على أنه عالمي، وهي تسعى بالتالي إلى «عولمة الجهاد» كي تتمكن من خوضه. ويعني ذلك، كما يقول ابن عثمان، «أن القاعدة مضطرة أن تعيد بناء هياكلها لتكون مبنية على أساس عالمي – أي أن يكون التنظيم عالمياً يعرف بيئته ويعرف كيف يتعامل مع واقعه.

وهذا الأمر لا يمكن فهمه سوى من خلال كيف ينظر التنظيم إلى نفسه وليس كيف يُنظر إليه». ويوضح أن خوض هذا الصراع ينقسم إلى ثلاثة مستويات أساسية:

الأول يضم القيادة العامة للقاعدة، بحسب التسمية الرسمية، وهي موجودة على الأرجح في وزيرستان، لكنها تنتشر في مناطق خراسان. وهذا التنظيم هو بمثابة القلب، ومهمته الرئيسة هي شن الحرب الإعلامية – معركة الأيديولوجيا. فهو الطرف الذي يحتكر حق نشر «رسالة القاعدة» التي تُنقل على لسان قادة التنظيم ومنظّريه البارزين مثل بن لادن والظواهري وعطية عبدالرحمن وأبو يحيي الليبي. وجميع هؤلاء يوجّهون رسالة «عالمية» باسم «القاعدة»، وهي رسالة تتضمن أبرز مواقف التنظيم مما يحصل مثل الرد على المراجعات التي يصدرها الجهاديون ضد الغلو الذي يحصل باسم الجهاد، أو الهجوم على العلماء المسلمين الذين تعتبرهم القاعدة معارضين لمواقفها ومؤيدين لحكومات بلدانهم. كما تشمل هذه الرسالة شرح مواقف القاعدة من الأمور البارزة في العالم مثل القضية الفلسطينية (بما في ذلك تأصيل هجوم «القاعدة» على «حماس»). وقد تكلّم في هذا الشأن الدكتور الظواهري، كما تكلم فيه عطية عبدالرحمن الذي تناول قضية «حزب الإسلام» في غزة وقضية «فتح الإسلام» في بلاد الشام.

المستوى الثاني هو مستوى الأقاليم، أي فروع القاعدة في بلاد الرافدين والمغرب الإسلامي وجزيرة العرب. كما أن هناك فروعاً لم يكتمل إنشاؤها بعد في أقاليم أخرى مثل قاعدة أرض الكنانة وقاعدة بلاد الشام. كما أن العمل يبدو جارياً حالياً على تسوية علاقة «حركة الشباب» الصومالية بـ «القاعدة»، إذ إن الحركة الصومالية أعلنت حتى الآن ولاءها للقاعدة من دون أن تتحول 
DSCF2994.jpg
إلى فرع رسمي لهذا التنظيم.

أما المستوى الثالث فهو يتعلق بمناصري القاعدة ومؤيديها حول العالم. وهؤلاء يتحركون أفراداً أو خلايا محلية من دون أن تكون لهم علاقة بالقيادة الأم في وزيرستان ولا بفروع القاعدة في أنحاء العالم. وهؤلاء العناصر لم ينضموا رسمياً إلى القاعدة ولم يبايعوا زعيمها على السمع والطاعة، لكنهم يدعمون في شكل مستمر «جهود الحرب» التي تخوضها القاعدة على المستويات المختلفة – الإعلامية والمالية والعسكرية، كونهم يقتنعون بأفكار هذا التنظيم. وهذه الشريحة من المتعاطفين تنتشر في أنحاء العالم. لكن عدم خبرتهم في الأمور العسكرية وعدم خضوعهم لتأصيل ديني قد يدفعهم إلى القيام بعمليات غير محمودة العواقب وقد تكون مفاجئة وغير مخطط لها لكنها تنطلق من قناعة بأنها تدخل في إطار «العمليات الاستشهادية»، كما ينظرون إليها.

Wednesday 29 September 2010

الوجه الآخر لـ«القاعدة» (5 من 6)

الوجه الآخر لـ«القاعدة» (5 من 6) ... انضمام «الجماعة السلفية» ساهم في فكّ الطوق عن «القاعدة»

الاربعاء, 29 سبتمبر 2010

لندن - كميل الطويل

شكّل انضمام «الجماعة السلفية الى الدعوة والقتال» الجزائرية إلى تنظيم «القاعدة» في أواخر العام 2006 انتصاراً معنوياً كبيراً لأسامة بن لادن. فهذا الرجل المختبئ في مناطق الحدود بين باكستان وأفغانستان والذي لا يجرؤ على الظهور علناً خشية أن «يصطاده» الأميركيون، بات الآن في إمكانه أن يقول إن تنظيمه يتوسع عالمياً بدل أن يتقوقع ويتفكك على رغم كل الحروب التي يتعرّض لها. أتاح انضمام «الجماعة السلفية» إلى «القاعدة» الفرصة أمام زعيم هذا التنظيم كي يقول إن «الجماعات الجهادية» التي رفضت في وقت من الأوقات الانضمام إليه في «حربه العالمية» ضد الغرب باتت الآن تتهافت للالتحاق به. وبعد شهور فقط من خطوة الجماعة الجزائرية، أعلن تنظيم بن لادن أن قادة في جماعة مغاربية أخرى هي «الجماعة الإسلامية المقاتلة» الليبية قد التحقوا بدورهم بصفوف «القاعدة»، كما فعلت من قبلهم «ثلة» أخرى من «فرسان الجماعة الإسلامية» المصرية بقيادة محمد خليل الحكايمة، ومن قبل هؤلاء أيضاً «جماعة التوحيد والجهاد» في بلاد الرافدين وبلاد الشام. (راجع حلقة أمس وأول من أمس)



«قاعدة المغرب الإسلامي»



كُتب الكثير عن قصة التحاق «الجماعة السلفية» الجزائرية بـ «القاعدة»، وعن ملابسات ذلك الالتحاق وأسبابه (راجع مقابلات الكاتب مع الأمير السابق لـ «الجماعة السلفية» حسّان حطاب وقادة جماعته في الجزائر في العام 2008 وكتابه «إخوة السلاح» (brothers in arms) الذي صدر في 16 الشهر الجاري في لندن). لكن ربما ما لم يلق كثيراً من الاهتمام هو النتيجة التي أدى إليها ذلك الالتحاق، بالمقارنة مع ما حصل لجماعات أخرى التحقت كذلك بـ «القاعدة» وصارت فروعاً لها حول العالم.



المقارنة الأولى التي لا بد من أن تُجرى هي مع فرع «القاعدة في بلاد الرافدين». فقد كان تنظيم «جماعة التوحيد والجهاد» ناشطاً في شكل قوي في العراق عندما وافق أميره «أبو مصعب الزرقاوي» على الالتحاق بـ «القاعدة» في العام 2004. لكن مبايعة الزرقاوي لأسامة بن لادن أدت بدورها إلى تحويل جزء كبير من الدعم الخارجي الذي يصل إلى «الجهاديين» في العراق إلى تنظيمه هو تحديداً الذي بات يحمل إسم «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين». وهكذا بدأ دفق المتطوعين «الجهاديين» يذهب إلى مجموعة الزرقاوي دون سواها في العراق، وهو أمر ساهم بلا شك وإلى حد كبير في جعل الزرقاوي أبرز قادة «المقاومة» بعدما وفّر له «غطاء القاعدة» عدداً كبيراً من المتطوعين لتنفيذ عمليات كان فرع «القاعدة» في العراق يصفها بأنها «استشهادية» لكنها مع الوقت صار ينظر إليها كثيرون على أنها ليست سوى عمل إجرامي يذهب ضحيته في الغالب أناس أبرياء.



هذا الدفق من «الجهاديين» على العراق بعد تحوّل تنظيم الزرقاوي إلى فرع لـ «القاعدة» هناك، حصل مثله لاحقاً دفق مماثل في اتجاه الصومال، وإن ليس بالكثافة ذاتها كما حصل في العراق (ربما انصب التركيز الإعلامي على «المتطوعين الجهاديين» إلى العراق كونهم يقاتلون الأميركيين، بينما قضية الصومال محلية في الأساس مع بعض الامتدادات الإقليمية). وقد جاء تدفق «الجهاديين» على الصومال على رغم أن «حركة الشباب المجاهدين» اكتفت حتى الآن بإعلان ولائها لتنظيم «القاعدة» من دون أن تنضم إليه رسمياً وتصبح فرعاً له في القرن الافريقي. وعلى رغم أن هذا الدفق في المتطوعين لـ «الجهاد» شمل خصوصاً صوماليين من أبناء الجالية المهاجرة في أنحاء العالم، بما في ذلك أميركا وأوروبا، إلا أن أعداد هؤلاء المتطوعين شملت أيضاً شباناً من جنسيات مختلفة، بما في ذلك الخليج العربي الذي يُعتقد أن عدداً لا يُستهان به من أبنائه قد التحقوا بما يعتبرونه «جهاداً» ضد قوات الحكومة الانتقالية الصومالية وداعميها من الجنود الافارقة، وقبل ذلك ضد القوات الإثيوبية التي انسحبت مطلع العام 2008. وفي أكثر من مناسبة، حرّض قادة تنظيم «القاعدة»، وعلى رأسهم أسامة بن لادن والدكتور أيمن الظواهري، الراغبين في «الجهاد» على الالتحاق بالقتال إلى جانب «الشباب».



ولكن في مقابل هذا الدفق من «الجهاديين» على العراق والصومال، لم تُسجّل، كما يلاحظ الاسلامي الليبي نعمان بن عثمان، حركة مماثلة للمتطوعين في اتجاه معاقل «الجماعة السلفية» في الجزائر، لا قبل تحوّلها الى فرع لـ «القاعدة» في المغرب الإسلامي ولا بعد ذلك (مطلع 2007). ولعل المتطوعين الوحيدين الذين سُجّل قدومهم إلى معاقل «القاعدة» في الجزائر كانوا من الشبان الليبيين والتونسيين الذين جاؤوا أساساً لتلقي تدريبات وتأمين طريقة لتهريبهم إلى العراق قبل أن «يعلقوا» هناك إثر تمكّن أجهزة الأمن من تفكيك الشبكات الأساسية التي تشرف على عمليات تهريب المتطوعين (والانهيار السريع لـ «الجهاد» في العراق).



والتفسير الأساسي لعدم التحاق متطوعين أجانب بفرع «القاعدة» المغاربي قد يكون مرتبطاً بأن كثيرين في العالم الإسلامي لم يعودوا ينظرون اليوم إلى القتال ضد الأنظمة العربية، بما في ذلك النظام الجزائري، على أساس أنه مقبول شرعاً، خصوصاً بعد المواقف والفتاوى الكثيرة التي صدرت عن قادة جهاديين بارزين تؤكد خطأهم في اعتبار تلك الأنظمة مرتدة يجوز قتالها. كما أن ذلك الامتناع عن الالتحاق بالجزائر قد يكون مرتبطاً أيضاً بعدم ثقة المتطوعين بأن الإسلاميين الجزائريين – «الجماعة السلفية» التي حلّت محل «الجماعة الإسلامية المسلحة» – لن يغدروا مجدداً بمن جاء لنصرتهم، كما حصل مع عناصر «الجماعة المقاتلة» الليبية عندما تم الفتك بهم خلال إمارتي جمال زيتوني وعنتر زوابري (خصوصاً في الأعوام 1995 و1996 و1997).



لكن نعمان بن عثمان، القيادي السابق في «المقاتلة» الليبية والذي كان على علاقة مباشرة بملف المقاتلين الليبيين في الجزائر آنذاك، يلفت إلى أمر آخر قد يكون سبباً في عدم التحاق متطوعين أجانب بفرع «القاعدة» في الجزائر حالياً. إذ يقول إن الأمر مرتبط بنوع العمليات التي يقوم بها فرع «القاعدة» المغاربي والتي تؤدي إلى مقتل مسلمين، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين. ويلفت، في هذا الإطار، إلى أن عمليات التفجير التي قامت بها «الجماعة السلفية» بعد تحوّلها إلى فرع لـ «القاعدة»، في الشهر الأول من العام 2007، جاءت بـ «رد فعل عكسي من الشعب الجزائري الذي رأى هذا التنظيم يُرسل أشخاصاً كي يفجّروا أنفسهم في مواقع عامة ويزرعوا الرعب والدمار بين المواطنين»، في إشارة إلى التفجيرات التي قامت بها «القاعدة» في 11 نيسان (أبريل) و11 كانون الأول (ديسمبر) 2007 في العاصمة الجزائرية. ويقول إن «أحد الإخوة الليبيين (...)، وهو شاب في الـ 23 من عمره، كان يقاتل في الجزائر إلى جانب فرع القاعدة، لكنه فرّ الآن إلى ليبيا وعاد إلى مدينته درنة. لم يستطع أن يبقى معهم بعدما رأى أفعالهم. لقد كان معهم وفرّ. قدّرت السلطات الليبية مبادرته وعودته إلى البلاد وأفرجت عنه».



ويقول بن عثمان إن ما ينطبق على تصرفات «القاعدة» في الجزائر ينطبق على تصرفات بقية خلاياها في دول المغرب الإسلامي. ويوضح: «القاعدة لا تفكّر في عواقب أفعالها. عندما شنّت الحرب على موريتانيا في العام 2005 لم تقدّر عواقب عملها، تماماً كما لم تقدّر القاعدة عواقب عملها عندما قامت بهجمات 11 أيلول (سبتمبر) ضد الولايات المتحدة. في موريتانيا قتلوا الجنود في ثكنة لمغيطي خلال خروجهم من صلاة الفجر». ومعلوم أن ذلك الهجوم على الثكنة الموريتانية في عمق الصحراء نُفّذ في العام 2005 على يد القيادي في «الجماعة السلفية» مختار بلمختار، قبل إعلان ولائها لـ «القاعدة» في العام 2006 ثم إعلان تحوّلها إلى فرع رسمي للتنظيم في بلاد المغرب الإسلامي في الشهر الأول من العام 2007.



ولعل من الجدير ملاحظته في هذا السياق أيضاً أن نشاط «القاعدة» داخل الجزائر قد تضاءل إلى حد كبير خلال العامين الماضيين، وبات معظم نشاطها يتركز في منطقة الساحل جنوب الصحراء الكبرى (بعض أجزاء جنوب شرقي موريتانيا وأقصى جنوب الجزائر وشمال مالي وبعض أجزاء النيجر وتشاد). لكن هذا النشاط يكاد يكون محصوراً بخطف رعايا أجانب من أجل مبادلتهم بفديات مالية أو بسجناء من «القاعدة» في دول الساحل، وأحياناً بسجناء إسلاميين في دول أوروبية.



«الجماعة المقاتلة»



وكان لافتاً هنا أن هذا التمدد لفرع «القاعدة» المغاربي خارج الجزائر بقي محصوراً إلى حد كبير بموريتانيا ودول الساحل الأفريقي، خصوصاً مالي والنيجر، من دون تسجيل محاولات، مثلاً، لاختراق الساحة الليبية المفترض أنها تمثّل جزءاً لا يتجزأ من ساحة عمل الفرع المغاربي منذ العام 2007. وباستثناء قدوم بعض الشبان الليبييين إلى الجزائر للالتحاق بمعسكرات «القاعدة»، فإن «الجماهيرية» بقيت على ما يبدو خارج إطار عمل «قيادة القاعدة» في الجزائر والتي يرأسها عبدالمالك دروكدال (أبو مصعب عبدالودود). ويفسّر نعمان بن عثمان هذا الأمر بالقول إن الموضوع الليبي مرتبط بـ «قرار مركزي من قيادة القاعدة في مناطق الحدود الأفغانية – الباكستانية»، وإن الدكتور أيمن الظواهري نفسه هو الذي يمسك بملف ليبيا في إطار فرع «القاعدة» في المغرب الإسلامي. ويشرح بن عثمان: «ما أعرفه هو أن الدكتور الظواهري أعطى أوامر للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، أي للجزائريين الذين يتولون قيادة التنظيم، بألا يتدخلوا في ليبيا إلا بأوامر شخصية منه. وما أعرفه أيضاً أن الدكتور الظواهري ينظر إلى ليبيا على أنها مرتبطة مباشرة بالشأن المصري، إذ إنها تستطيع، بحسب وجهة نظره، أن توثّر في أوضاع التيار الجهادي في مصر».



ومعروف أن الدكتور الظواهري كان الشخص الذي تولّى إعلان انضمام «ثلة» من أعضاء «الجماعة المقاتلة» إلى «القاعدة» في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007، وقد ظهر معه في شريط إعلان الانضمام «أبو الليث الليبي» القيادي البارز في «المقاتلة» الذي قال إنه «بناء على ما يوجبه علينا الشرع نعلن عن انضمامنا الى تنظيم قاعدة الجهاد»، مشيداً بأسامة بن لادن وبـ «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».



لم يشكّل ظهور «أبي الليث» مع الظواهري مفاجأة لكثيرين. فقد كان هذا الليبي موجوداً في مناطق الحدود الأفغانية – الباكستانية منذ نهاية العام 2001، عندما فشلت خطته في الدفاع عن كابول وانسحب عبر خوست إلى ميران شاه، في شمال وزيرستان. وعلى رغم أن «أبا الليث» نجح في تفادي السقوط في يد أجهزة الأمن الباكستانية وكان يمكنه أن يبقى مختبئاً هناك، إلا أنه كان متمسكاً بالمشاركة في ما اعتبره واجباً شرعياً وهو «الجهاد» ضد الأميركيين في أفغانستان. فأقفل عائداً إلى هذا البلد، وسرعان ما انخرط في معركة شاهي كوت الشهيرة بولاية بكتيا في آذار (مارس) عام 2002 والتي قُتل فيها عدد كبير من الجنود الأميركيين ومن مقاتلي «القاعدة» و «طالبان».



ظل «أبو الليث» يتنقل بين جانبي الحدود الأفغانية - الباكستانية طوال السنوات التي تلت 11 أيلول 2001، وإن كان يقضي معظم وقته في الجبال المحيطة بغارديز، في جنوب شرقي أفغانستان. ظل الأمر على هذا المنوال حتى العام 2007 عندما بات واضحاً أن «القاعدة» مصرّة على «عولمة الجهاد» من خلال بناء «وكالات» لها في دول العالم، كما ظهر في «بلاد الرافدين» و «بلاد الشام» و «بلاد الحرمين» و «أرض الكنانة» و «المغرب الإسلامي»، وأيضاً من خلال محاولة إنشاء وكالات أخرى في «أرض النيلين» (السودان) وفي القرن الافريقي (الصومال). كما أن «القاعدة» كانت بحلول ذلك التاريخ قد باتت تتحكم وحدها بساحة المقاتلين العرب الذين يأتون لـ «الجهاد» في أفغانستان (الحلقة الأخيرة غداً).



ويوضح بن عثمان أن انضمام الجزء الذي يقوده «أبو الليث» في «المقاتلة» إلى تنظيم «القاعدة» كان محور أخذ ورد دام فترة طويلة من الزمن ولم يتم فجأة. ويقول: «كان الأمر محور شد وجذب. أراد الشباب في البدء أن يبقوا ضمن السياق القتالي ويشاركوا في المعارك في أفغانستان، وأتكلم هنا عن أبي الليث والجماعة الذين كانوا معه. لكن هذه الفترة امتدت طويلاً. فقد كانت هناك تنظيمات بعيدة عن أفغانستان والتحقت بالقاعدة، مثل الجماعة السلفية في الجزائر، وقبلها نشوء جماعة «تنظيم القاعدة في بلاد الحرمين» وكذلك «القاعدة في بلاد الرافدين». كل هذه المجموعات كانت بعيدة عن ساحة القتال في أفغانستان لكنها التحقت بالقاعدة، في حين أن «أبا الليث» ومقاتليه من عناصر الجماعة المقاتلة كانوا هناك في الميدان ويرون بعضهم (عناصر القاعدة) لكنهم لم يلتحقوا بتنظيم القاعدة. لم يلتحقوا سوى في أيلول 2007. كان الأولى بهم أن ينضموا في 2002 أو 2003 أو 2004 أو 2005 أو 2006 أو بدايات 2007... لقد مرت فترة طويلة قبل أن يقرروا الالتحاق بالقاعدة. لم يكن أمراً سهلاً على هؤلاء المقاتلين أن يبقوا خارج القاعدة كل هذه الفترة. كان يُقال لهم: «أنتم معنا في الميدان ونقاتل إلى جانب بعضنا بعضاً، فلماذا لا تنضمون إلينا بينما التنظيمات الأخرى تنضم واحدة تلو الأخرى إلينا على رغم أنها ابعد منكم؟». كان الأولى أن ينضم «أبو الليث» والناس الذين كانوا معه قبل أن ينضم تنظيم الزرقاوي. ولكن حتى العام 2004 كانت قيادة الجماعة المقاتلة ما زالت مبعثرة، في الصين وغيرها من دول العالم. وهذا الأمر سبّب بعض العرقلة لأنه لا بد من أن يتم التفاوض معهم كلهم قبل إعلان خطوة التحاق المقاتلة بالقاعدة. «أبو الليث» كان بحاجة إلى أن يُقنع جزءاً من القيادة بالسير معه في مشروع الالتحاق بالقاعدة. ولكن ذلك لم يكن قراراً سهلاً بخاصة في ظل وجود قيادة كانت ما زالت حرة في تلك الفترة مثل أبي عبدالله الصادق وأبي المنذر وغيرهما. لكن أعتقد أيضاً أن من أهم العقبات التي بقيت عالقة (قبل الموافقة على انضمام «المقاتلة» إلى «القاعدة») أن «أبا الليث» والليبيين الذين كانوا ما زالوا معه أرادوا التأكد من موقف «الجماعة الإسلامية المقاتلة» نفسها: أين هي الآن، وماذا حلّ بها، وما هو موقفها من الصراع. كان «أبو الليث» يطمح قبل الانضمام إلى «القاعدة» أن يأخذ معه المجموعة كلها – أن يعيد ضم الشباب كلهم سواء كانوا في أوروبا أو في غيرها إلى الكتلة المقاتلة. أراد أن يثبّت سلطته على التنظيم كله قبل أن يلتحق بأسامة بن لادن. وبعد أن يتولى السلطة في التنظيم يتم الإعلان إذذاك عن انضمامه إلى القاعدة. وقد أُجريت فعلاً محاولات من «أبي الليث» كي يستقطب الناس (في المقاتلة) إليه».



ويكشف أن هناك مشكلة أخرى أخّرت الانضمام وهي علاقة الليبيين بالجزائريين في إطار الفرع المغاربي لـ «القاعدة». ويقول: «كانت هناك مشكلة أخرى وجدوا لها حلاً بعد ذلك وهي علاقة الليبيين بالجزائريين: كيف ستكون هذه العلاقة بعد الانضمام إلى القاعدة. وقد عالجوا هذه القضية بأن تم فصل الأمر إدارياً بحيث باتت ليبيا خارج إطار أوامر القاعدة في الجزائر. القيادة في الجزائر ليست لديها أي صلاحية أن تُصدر أوامر وقرارات وإجراءات تتعلق بالساحة الليبية، وانما تأتي هذه القرارات من مثلث أفغانستان – باكستان - إيران، وتحديداً من الدكتور الظواهري. هذا المشروع يراه الظواهري مشروعه الخاص به، وهو من أرسل الأوامر إليهم (القاعدة في الجزائر) بألا يتدخلوا في الشأن الليبي».



لكن «أبا الليث» عندما انضم إلى «القاعدة» لم تكن لديه بالفعل سلطة سوى على الناس الذين كانوا معه في مناطق الحدود الأفغانية - الباكستانية، وهو أمر فُسّر بأنه مثّل تجاوزاً لصلاحياته التي لا تجيز له أن يتخذ قراراً بمثل قرار ضم جماعة ليس هو أميرها إلى جماعة أخرى. ولذلك فقد كان واضحاً في «شريط الوحدة» الذي دام 28 دقيقة وتكلّم فيه الظواهري و «أبو الليث» مناصفة، أن هناك محاولة لاستقطاب قيادة «المقاتلة» المسجونة في ليبيا. فقد ذكر الظواهري بالإسم من وصفهم بـ «الأخ المجاهد» وسمّى «أبا عبدالله الصادق» و «أبا المنذر الساعدي» وقال: «إننا نعرف أنكم من المجاهدين». كان الظواهري يحاول بلا شك أن يوجّه ضربة إلى الحوار الذي كان قد بدأ في أول العالم 2007 بين قادة «المقاتلة» المسجونين وبين السلطات الليبية، برعاية مؤسسة القذافي للتنمية التي يرأسها الدكتور سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي. لكن الحكم الليبي - وعلى رغم انضمام «أبي الليث» وجناح من «المقاتلة» إلى تنظيم «القاعدة» - قرر مواصلة حواراته مع القادة المسجونين وعلى رأسهم أمير الجماعة أبو عبدالله الصادق ونائبه خالد الشريف (أبو حازم) والمسؤول الشرعي سامي الساعدي (أبو المنذر). ومثلما هو معروف، أثمرت هذه الحوارات عن إصدار قيادة «المقاتلة» مراجعات فقهية عُرفت باسم «دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس» وصدرت في صيف العام 2009. وكافأت السلطات الليبية الجماعة على مراجعاتها – التي تضمنت منع اللجوء إلى العنف لقلب أنظمة الحكم في العالم الإسلامي وإدانة كثير من الممارسات التي تُنسب إلى «القاعدة» باسم «الجهاد» – بأن أطلقت عشرات من سجنائها وقادتها ومن بقية المعتقلين «الجهاديين» على دفعات مختلفة بين العامين 2009 و2010.



ويعتقد بن عثمان، في هذا الإطار، أن «أبا الليث» كان يدرس في تلك الفترة إمكان السفر إلى الجزائر، ويربط ذلك بمعلوماته عن ليبيين أُرسلوا إلى هذا البلد لفتح قنوات اتصال مع فرع «القاعدة» هناك والتحضير لمجيء «أبي الليث» نفسه أو قيادي ليبي آخر بارز في «المقاتلة» ممن انضموا إلى «القاعدة» في وزيرستان، كعبدالله سعيد الليبي. لكن لم يُقدّر للرجلين تحقيق تلك الزيارة حتى ولو أرادا ذلك. فقد قُتل «أبو الليث» بغارة أميركية على مدينة مير علي في شمال وزيرستان في 28 كانون الثاني (يناير) 2008 بعد شهور فقط من انضمامه رسمياً إلى «القاعدة»، بينما قُتل عبدالله سعيد الليبي بغارة أخرى على وزيرستان في تاريخ غير محدد من عام 2009 (أكد مصطفى أبو اليزيد أمير «القاعدة» في بلاد خراسان مقتل سعيد الليبي في بيان أصدره في أواخر كانون الأول 2009 بمناسبة العملية التي نفّذها الدكتور هُمام خليل محمد البلوي أو «أبو دجانة الخراساني» ضد قاعدة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إيه» في خوست حيث قتل سبعة من أفرادها وضابطاً أردنياً كان يعتقد أنه تمكّن من تجنيده).



ومن أبرز القادة الليبيين الناشطين حالياً في مناطق الحدود الأفغانية - الباكستانية «أبو يحيي الليبي» الذي بات يُنظر إليه على أنه المنظّر الشرعي الأول لـ «القاعدة»، وربما يأتي مباشرة من حيث الأهمية بعد أسامة بن لادن والظواهري. أما الليبي الآخر البارز هناك فهو بلا شك عطية عبدالرحمن الليبي (عطية الله) الذي ينتمي إلى "القاعدة» منذ التسعينات من القرن الماضي، بعكس «أبي يحيى» الذي بقي عضواً في «المقاتلة» حتى العام 2007 عندما انضم مع «أبي الليث» إلى «القاعدة».

Tuesday 28 September 2010

الوجه الآخر لـ«القاعدة» (4 من 6)

الوجه الآخر لـ«القاعدة» (4 من 6) ... «القاعدة في أرض الكنانة» مشروع فشل قبل أن يبدأ ... ونهر البارد قضى على فرع «بلاد الشام»
الثلاثاء, 28 سبتمبر 2010
لندن - كميل الطويل
شكّل الغزو الأميركي العراقَ عام 2003 ولمعان نجم «أبي مصعب الزرقاوي» بصفته قائداً لـ «المقاومة» هناك متنفساً لأسامة بن لادن وقادة تنظيمه المحاصرين في مناطق القبائل الباكستانية وبعض المناطق داخل أفغانستان نفسها. فقد كان هؤلاء يواجهون حرباً لا هوادة فيها منذ انهيار حكومة «طالبان» في أفغانستان واضطرار «القاعدة» إلى الفرار من تورا بورا في أواخر عام 2001. لكن تحويل الأميركيين أنظارهم إلى العراق وغرقهم في ما بدا «مستنقعاً» يستنزف قواهم هناك، سمح لـ «قيادة القاعدة» بأن تستخدم أسلوباً جديداً يحاكي تجربتها مع الزرقاوي في العراق. فكما نجحت «القاعدة» في استيعاب تنظيم الزرقاوي – جماعة التوحيد والجهاد – الذي ليس لها أي فضل في تأسيسه أصلاً، فإنها سعت أيضاً إلى القيام بالأمر ذاته في مناطق أخرى في العالم. وهكذا انطلقت مشاريع «فروع القاعدة» من المغرب العربي إلى مشرقه، مروراً بالخليج العربي وأرض الكنانة وانتهاء بالقرن الأفريقي.
«جزيرة العرب»
كان «تنظيم القاعدة في بلاد الحرمين» أول فروع التنظيم التي يتم إنشاؤها بعد «نكسة تورا بورا» في نهاية 2001. وقد تزامن ظهور هذا الفرع إلى العلن في عام 2003 مع بدء الزرقاوي عملياته الضخمة في العراق، على رغم أن الإسلامي الأردني لم يكن قد التحق بعد رسمياً بعباءة «القاعدة» وكان ما زال يعمل على رأس جماعته المستقلة منذ أيام أفغانستان («جماعة التوحيد والجهاد»). ولكن في حين كان الزرقاوي يسير بخطوات سريعة نحو إثبات نفسه قوة لا يُستهان بها في «بلاد الرافدين» من خلال تحويلها مستنقعاً دموياً للأميركيين والقوات الأجنبية، حتى من قبل أن يبايع أسامة بن لادن في أواخر عام 2004، فإن فرع «القاعدة» في السعودية لم يتمكن من تحقيق نجاح مماثل. إذ ما كادت «قاعدة بلاد الحرمين» تبدأ ضرباتها في السعودية في أيار (مايو) 2003 حتى كانت أجهزة الأمن تُطبق على خلاياها وتفككها الواحدة تلو الأخرى وتقتل أو تعتقل كل أمير يتوالى على قيادتها بدءاً بيوسف العييري وانتهاء بصالح العوفي.
وعلى رغم أن هذا الفرع نفّذ لدى بدء نشاطه سلسلة واسعة من عمليات التفجير الدموية، تمثّلت خصوصاً في مهاجمة مجمّعات سكن المقيمين الأجانب في الرياض، إلا أن أجهزة الأمن السعودية سرعان ما استعادت المبادرة وقضت في شكل شبه كامل - خلال سنتين فقط - على أي نشاط لعناصر التنظيم داخل المملكة. ونتيجة لذلك، اضطرت «القاعدة» إلى وقف عملياتها والانتقال إلى اليمن المجاور عسى أن تتمكن هناك من التقاط أنفاسها. ويؤكد الإسلامي الليبي نعمان بن عثمان، في هذا الإطار، أن «القاعدة» أوقفت نشاطها في السعودية بناء على أمر من بن لادن. ويقول: «أمر بن لادن شخصياً بأن تتوقف القاعدة عن القتال في المملكة، بعدما رأى أن تنظيمه هُزم عسكرياً وبعدما رأى أن عملياته أثارت عدم رضى من الشعب السعودي ومن العلماء».
بعد هزيمة خلايا «القاعدة» في السعودية انتقل الناجون من أفرادها إلى اليمن وبقوا هناك حتى كانون الثاني (يناير) 2009 حين أعلنوا الاندماج مع فرع «القاعدة» اليمني بقيادة ناصر الوحيشي الذي كان قد تمكّن من الفرار من سجن صنعاء في شباط (فبراير) 2006. وهكذا نشأ «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» ليضم الجناحين السعودي واليمني. لكن نشاط هذا التنظيم الحديث النشأة بقي محصوراً إلى حد كبير داخل اليمن نفسه، مستغلاً على ما يبدو المشاكل الكثيرة التي تعانيها حكومة هذا البلد من حرب مع الحوثيين في الشمال وتمرد انفصالي في الجنوب، وتُضاف إليهما مشاكل الفساد والبطالة والفقر وشح آبار النفط ونضوب مصادر المياه. ومع كتابة هذا التقرير، كان فرع «القاعدة» الخليجي ما زال منحصراً أساساً في اليمن، مع محاولات متكررة يقوم بها من حين إلى آخر لإثارة اضطرابات في المملكة، بما في ذلك محاولة اغتيال مسؤولين حكوميين.
«القاعدة في أرض الكنانة»
وفي الوقت الذي كانت «القاعدة» تُطلق فرعها في «بلاد الحرمين» عام 2003 – والذي سرعان ما انهار في السعودية – ثم فرعها في «بلاد الرافدين» بعد انضمام الزرقاوي عام 2004، كانت محاولات أخرى تُبذل لإطلاق مشاريع مماثلة في مناطق أخرى حول العالم. وكان طبيعياً أن تكون مصر، «أرض الكنانة»، واحدة من الدول التي سعت «القاعدة» إلى مد نشاطها إليها. لكنها هنا أيضاً لم توفّق في مسعاها.
رست مهمة مد نشاط «القاعدة» إلى مصر على القيادي من جيل الوسط في «الجماعة الإسلامية» محمد خليل الحكايمة. وهو كان عنصراً ناشطاً في الجماعة في صعيد مصر، لكنه لم يكن من قياداتها البارزة. فقد كان يعمل بعيداً من الأضواء في إطار نشاطات قادة هذه الجماعة في المنفى. في البدء، كان مرتبطاً، على ما يقال، بطلعت فؤاد قاسم (أبو طلال) القيادي الكبير في الجماعة المقيم في الدنمارك والذي خُطف في كرواتيا خلال توجّهه إلى البوسنة عام 1995 ولم يُعثر له على أثر. بعد سنتين من اختفاء قاسم، تعرّضت «الجماعة الإسلامية» لانشقاق خطير عندما أطلق قادتها في السجون المصرية مبادرة لوقف العنف عام 1997، وهو أمر رفضه عدد من قيادات الخارج تزعّمهم رفاعي طه. كان الأخير من قيادات الجماعة المتمسكين بمواصلة العمليات المسلحة في مصر، وهو أثار حنق قادة جماعته المسجونين عندما بادر في تشرين الثاني (نوفمبر) 1997 إلى تبنّي «مذبحة الأقصر» التي نفّذها ستة من عناصر الجماعة – على رغم «المبادرة السلمية» التي أُطلقت قبل ذلك بشهور – والتي أوقعت عشرات القتلى من السيّاح الأجانب، إضافة إلى رجال أمن مصريين. وأثار رفاعي مرة ثانية حنق جماعته عندما وقّع باسمها بيان إطلاق «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين» في أفغانستان في شباط 1998، وهو تصرّف أرغمته جماعته على إصدار توضيح في شأنه يؤكد فيه أنه وقّع البيان الذي أصدره أسامة بن لادن والدكتور أيمن الظواهري (مع قادة جماعات إسلامية أخرى) باسمه الشخصي وليس باسم «الجماعة الإسلامية» المصرية.
لم يكن الحكايمة حتى ذلك التاريخ من القيادات البارزة في «الجماعة»، لكنه كان محسوباً على خط رفاعي طه الذي اضطر في نهاية المطاف إلى تقديم استقالته من رئاسة «مجلس شورى» الجماعة في المنفى لمصلحة رفيقه مصطفى حمزة الذي وافق على السير في السياسة السلمية لقيادة الداخل. ومع تراجع نفوذ رفاعي في «الجماعة»، قرر الحكايمة طلب اللجوء السياسي في الغرب، كما فعل كثيرون غيره من قيادات الجماعات الإسلامية العربية. وقع اختياره على بريطانيا التي جاء إليها في عام 1999، لكنه لم يبق فيها طويلاً. «بقي هنا حتى عام 2001»، كما يقول نعمان بن عثمان، و «غادر بمحض إرادته. فقد شعر بأنه لا يمكنه البقاء هنا في بلاد الكفار، بل يجب أن يخرج ليقيم في أفغانستان كونه يرى أن حكومة «طالبان» تحكم بالشريعة الإسلامية. لكنني أعتقد أنه استُقطب. تم التأثير فيه كي ينتقل إلى مكان يكون فيه قريباً من رفاعي طه. لم يكن مرتاحاً منذ البداية إلى مشروع «المبادرة السلمية» وكان أقرب إلى رفاعي في هذا الشأن».
ظل الحكايمة في الظل حتى عام 2006. فجأة ظهر إلى السطح في مكان غير محدد وبدأ يُجري اتصالات برفاقه القدامى. أحدهم كان الدكتور هاني السباعي وهو أحد القيادات «الجهادية» المصرية في بريطانيا ومعروف بمواقفه المؤيدة لما يعتبره «جهاداً» يحصل في كثير من دول العالم، وعلى رأسها أفغانستان والعراق.
اتصل الحكايمة، بلا شك، بكثيرين غيره في تلك الفترة. فقد كان يريد إعادة فتح قنوات اتصال، خصوصاً مع الإسلاميين المصريين الذين يمكن أن تكون لهم خطوط اتصالات ومعارف – من أصدقاء أو أقرباء - في بلدهم على وجه الخصوص. لم يكن جميع من اتصل بهم يعرف مقصده بالطبع ولا المهمة التي كانت موكلة إليه. لكن لم تمر فترة طويلة حتى اتضحت أهدافه. ففي أيار (مايو) 2006 أعلن الدكتور أيمن الظواهري في شريط فيديو أن جناحاً في «الجماعة الإسلامية» المصرية قد انضم إلى «القاعدة». كان الظواهري حريصاً على التوضيح أن الذين انضموا يمثّلون فقط «جناحاً» في الجماعة التي كانت قيادتها في مصر متمسكة بالمبادرة السلمية وأصدرت لها تأصيلات شرعية دانت فيها بشدة أفكار «القاعدة» وممارساتها. قال الظواهري في شريطه: «نبشّر الأمة الإسلامية بأن جناحاً كبيراً من فرسان الجماعة الإسلامية... توحّد مع تنظيم القاعدة». وظهر الحكايمة في الشريط يقرأ بيان الانضمام في ظل أشجار النخيل، ما أعطى الانطباع أنه في مناطق القبائل الباكستانية أو في أفغانستان نفسها. والأرجح أنه كان في وزيرستان حيث يمكنه من هناك إجراء اتصالات مع العالم الخارجي ويكون قريباً في الوقت عينه من قيادات «القاعدة» الذين بات الآن واحداً منهم.
ويكشف نعمان بن عثمان أن الحكايمة تولى عند التحاقه بـ «القاعدة» مسؤولية اللجنة الأمنية، لكن جهده الأكبر كان منصبّاً على «إحياء الحالة الجهادية» في مصر وليس تنفيذ عمليات مسلحة (شهدت مصر بين عامي 2004 و2006 ثلاث هجمات ضخمة استهدفت مواقع سياحية في شرم الشيخ وطابا ودهب، لكن تنظيم القاعدة لم يعلن مسؤوليته رسمياً عن أي منها، بل صدرت بيانات زعمت مسؤولية جماعة تُطلق على نفسها اسم «كتائب عبدالله عزام»). ويقول: «عندما التحق الحكايمة بالتنظيم كانت المسؤولية الأولى التي تولاها هي تعيينه مسؤول اللجنة الأمنية في القاعدة».
كانت «القاعدة» قد «خسرت» المسؤول الأصلي عن هذه اللجنة «أبو محمد الزيات» – أحد قيادات «جماعة الجهاد» المصرية – في أعقاب هجمات 11 سبتمبر. فقد كان الزيات معارضاً في شدة لتنفيذ مثل هذا الهجوم، إذ اعتبره يمثّل «معصية» كونه يُنفّذ من دون أخذ إذن الملا عمر. تسبب موقف الزيات، وهو من جيل الرعيل الأول في «الجهاد» وكان ناشطاً في أوساط «الجهاديين العرب» مع بن لادن والظواهري في السودان في منتصف التسعينات، في فتور علاقته بزعيم «القاعدة». انتقل الزيات إلى إيران، مع مئات غيره من «النازحين» من أفغانستان في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، وقد «علق» هناك مثل كثيرين من قيادات «القاعدة» الذين وضعتهم السلطات الإيرانية إما في السجون أو في إقامات رسمية تُشرف عليها أجهزة الأمن.
وفي إطار مسؤولياته في اللجنة الأمنية في «القاعدة»، تولى الحكايمة خصوصاً مهمة إعادة «إحياء الحالة الجهادية» في مصر. فأنشأ نواة لتنظيم جديد باسم «القاعدة في أرض الكنانة» وبدأ ينشط عبر موقع على شبكة الإنترنت باسم «الثابتون على العهد» (في «الجماعة الإسلامية») بهدف استقطاب عناصر جديدة، وتحديداً من أبناء «التيار الجهادي». لكن تحرّكه لم يلقَ النجاح السريع الذي ربما كان يأمل بتحقيقه. فـ «الساحة الجهادية» المصرية في عامي 2006 و2007 لم تكن هي الحالة نفسها التي كانت سائدة في تسعينات القرن الماضي عندما كانت «الجماعة الإسلامية» و "جماعة الجهاد» قادرتين على شن هجمات باستمرار على الأراضي المصرية.
سعى الحكايمة في البدء إلى التعامل في شكل هادئ مع «مراجعات» رفاقه «الجهاديين» المصريين. وقد رد على هذه المراجعات والدراسات من خلال مواقف نشرها على موقعه على شبكة الانترنت – «الثابتون على العهد» – وبدا فيها حريصاً على أن يؤثر في عناصر جماعته السابقة – «الجماعة الإسلامية» – كي يعودوا إلى مسارهم القديم ويتمسكوا بخطهم السابق الذي يعتبر الحكم المصري مرتداً.
ويقول بن عثمان: «سعى الحكايمة إلى إحياء التنظيم الجهادي في مصر من طريق «القاعدة في أرض الكنانة». بدأ اتصالات، بعضها من خلال استخدام الانترنت، محاولاً أن يعيد الاتصال خصوصاً بالأعضاء القدامى في الجماعة الاسلامية الذين خرجوا من السجون نتيجة المبادرة السلمية أو من خلال الاتصال بناشطين قدامى لم يتم كشفهم. كان يحاول جمعهم في إطار تحرّك لإطلاق مشروع «القاعدة في أرض الكنانة»، ولكن ليس من خلال الطريقة التنظيمية السابقة والقائمة على نظام الشبكات. كان يريد أولاً أن يشتغل على الصعيد التعبوي. هذا شغله الأول. فقد كان يركّز دائماً على ضرورة أن «تعودوا إلى الطريق الأول» وأن «تعودوا إلى عهدكم»، وعلى ضرورة أن «تنظّموا أنفسكم وتقوموا ببناء الخلايا» قبل التفكير في القيام بأعمال مسلحة. وهذه الطريقة في العمل تنم عن ذكاء. في المرحلة الأولى لا بد من إعادة بناء التنظيم. كان يريد إيجاد الحالة قبل البدء في العمل. وهو كونه من أعضاء الجماعة الإسلامية بدأ يعطي النصائح ويصدر توجيهات... لكن المشروع فشل لأن القائمين عليه كانوا بعيدين عما يحصل على الأرض في الساحة المصرية. معلوماتهم كانت قديمة جداً. كما أن وضع الحالة الجهادية في مصر كان قد تغيّر جوهرياً وتحديداً منذ أن خرجت الجماعة الإسلامية من الصراع».
وقد تعرّضت جهود بناء «القاعدة في أرض الكنانة» إلى نكسة شديدة في آب (أغسطس) 2008، عندما قُتل الحكايمة في غارة أميركية بطائرة بلا طيّار في مناطق القبائل الباكستانية. لم تُعلن «القاعدة» رسمياً مقتله بُعيد حصوله، لكنها أقرت به بعد فترة طويلة (في 2010) من دون أن تعلن تنصيب أمير جديد لفرعها في «أرض الكنانة» ولا اسم المسؤول الذي انتقلت إليه مسؤولية «اللجنة الأمنية» بعد رحيل الحكايمة. وهي قد تكون فعلاً أجرت مثل هذه التعيينات لكن ذلك لم يُعلن بعد في شكل رسمي.
«بلاد الشام»
وكما فشلت «القاعدة» في إقامة فرع لها في «أرض الكنانة» فإنها مُنيت بفشل مماثل في «بلاد الشام» بعدما فككت السلطات اللبنانية والسورية خلايا هذا التنظيم في شكل شبه كامل. ولعل الفارق الأساسي في هاتين التجربتين يكمن في أن «القاعدة» كان عليها أن تبدأ من الصفر في بناء تنظيم لها في مصر المحكومة بقبضة أمنية حديدية منذ أحداث التسعينات مع «الجماعة الإسلامية» و «جماعة الجهاد»، في حين أنها «ورثت» تنظيماً كان ناشطاً أصلاً في الساحتين اللبنانية والسورية (بلاد الشام) وهما ساحتان كانتا بلا شك أكثر انفتاحاً بكثير من الساحة المصرية إزاء «الجهاديين».
ولا شك في أن أحداث العراق كانت مبرراً بالنسبة إلى كثيرين في المشرق العربي كي يغضّوا الطرف عن «الجهاديين» الذين يرغبون في الذهاب لقتال الأميركيين في العراق، وغالباً عبر الأراضي السورية. قيل الكثير عن غض دمشق الطرف عن هؤلاء، خصوصاً عندما بدأ بعض أركان إدارة الرئيس جورج بوش يلمح إلى ضرورة «إكمال المهمة» بقلب نظام الرئيس بشار الأسد بعد قلب نظام الرئيس صدام حسين. وفي لبنان، كانت هناك أيضاً مناطق عدة معروفة بأنها تقع خارج سلطة الدولة اللبنانية، وتحديداً في المخيمات الفلسطينية المنتشرة في الجنوب والشمال وضواحي العاصمة بيروت. وقد شكّلت هذه المخيمات فرصة ذهبية لمن يريد أن يتحرك فيها بعيداً من أعين الأجهزة اللبنانية.
كان أبو مصعب الزرقاوي أول من تنبّه إلى إمكان استغلال الساحتين اللبنانية والسورية لمصلحته، وذلك منذ فترة ما قبل غزو العراق عام 2003. فمنذ أيام أفغانستان كان الزرقاوي يعمل وفق مشروعه الخاص في «بلاد الشام» بعدما فشلت جهود أسامة بن لادن لضمه إلى «القاعدة» في أواخر التسعينات. وكما يقول الليبي نعمان بن عثمان، فقد كان الخلاف بين الرجلين يتركز أساساً على موضوع التكفير، إذ طلب الزرقاوي من بن لادن أن يُكفّر رسمياً إحدى الحكومات العربية، لكن زعيم «القاعدة» رفض ذلك. وعلى هذا الأساس، قرر الزرقاوي أن يقوم بمشروعه «الجهادي» الخاص في بلاد الشام، بما في ذلك الأردن.
كان لدى الزرقاوي في معسكره في هرات شاب لبناني يدعى حسن نبعة ولا يعرفه رفاقه سوى بـ «أبي مسلم»، وهي كنية من بين كنى عدة يحملها هذا الشاب الذي جاء إلى أفغانستان في عام 2000 بعد أحداث الضنّية (شمال لبنان) بين جماعة إسلامية مسلحة وبين الجيش اللبناني. وبعد فترة من التدرب في معسكر خلدن ثم في معسكر هرات، بايع اللبناني الزرقاوي أميراً عليه في إطار «جماعة التوحيد والجهاد». عاد «أبو مسلم» إلى لبنان بعد ذلك لكنه ظل بعيداً من الأنظار حتى ما بعد الحرب الأميركية «ضد الإرهاب» وإطاحة نظام «طالبان» في 2001. في تلك الفترة، كان الزرقاوي قد نجح في مغادرة هرات ودخل إلى إيران حيث بدأ التحضير لخطوته المقبلة وهي الانتقال إلى العراق. أرسل الإسلامي الأردني من إيران رجلاً سعودياً من القصيم (ف. أ.) كان قد تدرّب في معسكره في هرات وبايعه. جاء السعودي إلى لبنان بهدف فتح قنوات اتصال مع جماعة فلسطينية «جهادية» ناشطة في مخيم عين الحلوة للاجئين في جنوب لبنان وإقناعها بالانضمام إلى «جماعة التوحيد والجهاد». لكنه لم ينجح في مهمته على ما يبدو، إذ بقيت الجماعة الفلسطينية تعمل في شكل مستقل.
غير أن الأحداث كانت تتسارع آنذاك في المنطقة في ظل مؤشرات إلى نية الأميركيين غزو العراق. فبدأ المتطوعون «الجهاديون» يتدفقون على «بلاد الرافدين» من دون أن يكونوا ينضوون إلى جماعة معينة بل كانوا خليطاً من الجماعات. كانت جماعة الزرقاوي (التوحيد والجهاد) واحدة من تلك الجماعات، وسرعان ما انخرطت في المعارك ضد الأميركيين. وكانت تلك المعارك فرصة كي يلتحق «أبو مسلم» اللبناني بأميره الزرقاوي في العراق، حيث خاض إلى جانبه معارك شديدة أبرزها معركة الفلوجة الأولى (نيسان/ابريل 2004).
كان دور اللبناني في هذه المعركة مناسبة لبروز نجمه في شكل سريع. إذ سرعان ما كلّفه الزرقاوي بالانتقال إلى سورية وتولي إمارة «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» والإشراف بالتالي على شبكات إرسال المتطوعين إلى «بلاد الرافدين». كما عيّن الزرقاوي نائباً سورياً للأمير اللبناني هو سليمان درويش (أبو الغادية). افتتح الأمير «أبو مسلم»، أو كما بات يعرفه الذين يبايعونه في سورية باسم «الشيخ راشد»، مضافات مختلفة لاستيعاب المتطوعين «الجهاديين» كان أبرزها ثلاث مضافات في حمص وحلب ودمشق، إضافة إلى شبكة مضافات مختلفة في لبنان، أُخفي بعضها في مناطق ذات غالبية مسيحية لإبعاد الشبهات عنها (إحداها في منطقة عين الرمانة). وكان معظم التمويل الذي يأتي لفرع «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» يشرف على تأمينه السعودي «ف. أ.» الذي كان يتنقل عبر أكثر من دولة في الشرق الأوسط من دون أن يثير شكوك أجهزة الأمن. وكاد هذا السعودي أن ينكشف في إحدى المرات عندما كان في سيارة تقل أربعة من «الجهاديين» في مدينة حلب حين انفجرت فيهم عبوة ناسفة كانوا ينقلونها، فقُتل اثنان من ركابها (أحدهما تركي) وأصيب الآخران. ولكن في حين قبضت الأجهزة السورية على أحد الجريحين، تمكن السعودي من الوصول إلى إحدى المضافات في المدينة حيث عولج وعاود نشاطه.
وشهدت «إمارة» حسن نبعة لفرع «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» في أواخر عام 2004 انشقاقاً قاده أحد القادة المحليين ويدعى «أبو أنس» الذي صار يطلب من مناصريه أن يبايعونه هو وليس اللبناني. وقد حاول الزرقاوي التوسط بين الرجلين وحل خلافاتهما ولكن من دون جدوى.
ومع انتهاء معركة الفلوجة الثانية في كانون الأول (ديسمبر) 2004 أعلن الزرقاوي مبايعته أسامة بن لادن الذي عيّنه أميراً على فرع «القاعدة» في «بلاد الرافدين». ومع تحوّل جماعة «التوحيد والجهاد» في العراق إلى فرع لـ «القاعدة» بقيادة الزرقاوي، تحوّل نبعة بدوره إلى أمير لفرع «القاعدة ببلاد الشام»، وإن كانت علاقته المباشرة بقيت محصورة بالزرقاوي وليس بـ «قيادة القاعدة» في وزيرستان. كما أن نشاط فرع «بلاد الشام» بقي محصوراً في سورية ولبنان، بما في ذلك المخيمات الفلسطينية فيه، من دون أن يتمدد إلى الأردن الذي بقي على ما يبدو مرتبطاً مباشرة بالزرقاوي في العراق.
في النصف الثاني من عام 2006 كان نشاط فرع «القاعدة في بلاد الشام» قد بلغ ذروته، إذ تدفق آنذاك مئات «الجهاديين» من دول مختلفة – خصوصاً من المغرب العربي والخليج - إلى مضافات «القاعدة» في لبنان. وقد تم إيواء جزء كبير منهم في مخيم نهر البارد في شمال لبنان والذي كانت قد سيطرت عليه جماعة «فتح الإسلام» بقيادة شاكر العبسي المنشق عن «فتح الانتفاضة». وكانت ساحة العراق قد سمحت بفتح قنوات اتصال بين الطرفين، إذ كان كلاهما يشارك في إرسال متطوعين للقتال ضد الأميركيين في «بلاد الرافدين».
لكن هذا التمدد السريع لـ «القاعدة» في لبنان (وكذلك في سورية) سرعان ما تعرّض لنكسة شديدة. ففي ربيع عام 2007 بدأت سلسلة من المواجهات بين هؤلاء «الجهاديين» وبين الجيش اللبناني الذي لجأ إلى فرض حصار على معقلهم الأساسي في نهر البارد. وعلى رغم أن المواجهات في المخيّم استمرت منذ أواخر أيار (مايو) وحتى بدايات أيلول (سبتمبر) 2007 وحصدت مئات القتلى من الجانبين، إلا أن حصيلتها كانت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار: القضاء على كتلة ضخمة من مقاتلي «القاعدة» وعلى النواة الصلبة لـ «فتح الإسلام» في لبنان. بقيت، بلا شك، بعض «الخلايا النائمة» التابعة لهذين التنظيمين والتي قامت أحياناً ببعض التفجيرات، خصوصاً ضد حافلات النقل العام التي تُقل جنوداً لبنانيين. إلا أن جماعة «فتح الإسلام» لم يعد لها وجود يُذكر سوى في جزء صغير من مخيم فلسطيني آخر هو مخيم عين الحلوة قرب صيدا في الجنوب اللبناني، في حين اختفى كلياً أي نشاط لـ «القاعدة» في لبنان، خصوصاً بعد سقوط أمير هذا التنظيم حسن نبعة في قبضة الأجهزة الأمنية اللبنانية. وكما تعرّضت خلايا «القاعدة في بلاد الشام» لنكسة كبيرة في لبنان، فإنها تعرضت لنكسة مماثلة في سورية (ومعها خلايا «فتح الإسلام»). فهذا البلد الذي غض الطرف طويلاً عن نشاط «الجهاديين» على أرضه كونهم يذهبون إلى العراق، بدأ فجأة حملة لا هوادة فيها ضد شبكاتهم. ربما شعر الحكم في سورية بأن لا حاجة له بهم الآن بعدما ساعدوه في الصمود في وجه الضغوط الهائلة التي مارستها إدارة جورج بوش (التي أغرقها «الجهاديون» في «مستنقع عراقي»). وربما شعرت سورية أيضاً بأن نشاط «الجهاديين» قد خرج عن القيود المفروضة وصار يسبب قلقاً أمنياً على أمن البلد نفسه. ومهما كانت الحقيقة، فإن النتيجة التي لا خلاف عليها هي أن «القاعدة» و "فتح الإسلام" وجدتا باب سورية موصداً في وجهيهما كما أوصد من قبل باب لبنان أمامهما.
وإذا كان كل ذلك لا يكفي، فقد تعرّضت «القاعدة في بلاد الشام» لنكسة أخرى تمثّلت في قضاء حركة «حماس» الفلسطينية على تنظيم صغير أطلق على نفسه «جيش الإسلام» في غزة وأعلن ولاءه رسمياً لتنظيم أسامة بن لادن. وعلى رغم تدخل قادة «القاعدة» الكبار في مناطق الحدود الأفغانية – الباكستانية، مثل الدكتور أيمن الظواهري وأبي يحيى الليبي، للدفاع عن «جيش الإسلام» وانتقاد حركة «حماس» وسياساتها «غير الإسلامية» (مثل المشاركة في الانتخابات «الكفرية»)، إلا أن ذلك لم يؤد إلى شق الحركة الإسلامية ولا إلى تعزيز موقع «جيش الإسلام» الذي قضت «حماس» عليه كقوة عسكرية في أيلول 2008 إثر اشتباكات دامية بينهما في مدينة غزة.

Monday 27 September 2010

الوجه الآخر لـ«القاعدة» (3 من 6)


الوجه الآخر لـ«القاعدة» (3 من 6) ... الزرقاوي منح «القاعدة» السيطرة على «معابر الجهاديين» إلى العراق
الإثنين, 27 سبتمبر 2010
لندن - كميل الطويل
كانت أفغانستان في مطلع العام 2002 تستعد لبدء حقبة جديدة من تاريخها الحديث. إنهار حكم حركة «طالبان» المستمر منذ العام 1996، ورحل معه أي نفوذ لتنظيم «القاعدة» الذي تشتت بالكامل في أعقاب معركة تورا بورا، في نهاية كانون الأول (ديسمبر) 2001. تولى الحكم الجديد في كابول زعيم بشتوني مناوئ لـ «طالبان» هو حامد كارزاي، لكن إدارته هيمنت عليها الأطراف المكوّنة لـ «تحالف الشمال»، خصوصاً الطاجيك والأوزبك والهزارة.

ولكن في حين إنكفأت حركة «طالبان» على نفسها تعيد لملمة أوصالها المقطّعة تمهيداً لبدء جولة جديدة من القتال ضد الحكم الجديد في كابول وداعميه الأميركيين، بدا أن جموع العرب الذين كانوا في أفغانستان انكفأوا بدورهم إلى خارج هذا البلد يفتشون عن ملجأ آمن جديد لهم. غالبيتهم العظمى نزحت في اتجاه باكستان حيث سقط المئات منهم في قبضة أجهزة الاستخبارات التي سلّمتهم بدورها إلى أجهزة الاستخبارات الأميركية. لكن مئات آخرين من هؤلاء النازحين الذين نجوا من قبضة الأجهزة الباكستانية أو من الذين فروا مباشرة من أفغانستان نجحوا بدورهم في العبور إلى إيران التي أوقفت عدداً كبيراً منهم ووضعتهم في إقامات تُشرف عليها أجهزة تابعة للحرس الثوري في انتظار بت مصيرهم.

حاول تنظيم «القاعدة» في البدء وقف حركة النزوح العربية إلى خارج منطقة النزاع في أفغانستان – باكستان. ولتحقيق هذا الهدف، سعى بعض مؤيدي التنظيم إلى استصدار فتاوى من علماء بارزين تحذّر «المجاهدين» من مغبة مغادرة «أرض المعركة». ويقول نعمان بن عثمان في هذا الشأن: «حصل آنذاك صراع فتاوى. حاول بعض الناس الاتصال بلندن لاستصدار فتوى تقول إنه ممنوع مغادرة أفغانستان لأن ذلك يثبّط من عزائم المجاهدين. لقد كنت شاهد عيان على ذلك. الهواتف كانت مفتوحة أمامي وكنت شاهداً على النقاشات الجارية. كانوا يريدون استصدار فتوى يكون لها تأثير في الأوساط الجهادية تنص على أن ترك ساحة القتال في أفغانستان لا يجوز لأن ذلك يثبط من عزائم المجاهدين».

لكن حتى صدور فتاوى بهذا المعنى مهما علا شأن من ستصدر عنهم ما كانت لتنجح على الأرجح في وقف حركة النازحين من أفغانستان، خصوصاً بعدما إنهارت «طالبان» في قندهار وهُزمت «القاعدة» في تورا بورا. كثيرون، في الحقيقة، كانوا يغادرون وهم يحمّلون أسامة بن لادن شخصياً مسؤولية ما لحق بهم من كوارث ونكبات نتيجة هجمات 11 سبتمبر. غير أن عدداً من قادة الجهاديين العرب اعتبروا، من منطلقات شرعية، أن لا بد من البقاء في أفغانستان للدفاع عنها ضد «الغزاة» الأميركيين، مهما كان الخطأ الذي ارتكبته «القاعدة».

كان «أبو الليث الليبي» واحداً من هؤلاء. فبعدما فشل هذا القيادي في «الجماعة المقاتلة» في صد الهجوم على كابول عند «جبهة شمالي»، شقّ طريقه نحو ولايات الجنوب الشرقي الأفغاني، وتحديداً ولايات خوست وبكتيا وبكتيتا. كان من ضمن القوافل التي أقلّت عائلات العرب النازحين في اتجاه أفغانستان. لكنهم ما أن وصلوا إلى خوست حتى أغارت عليهم الطائرات الحربية الأميركية وقتلت العشرات منهم. قُتل في تلك الغارات، كما بات معروفاً، بعض أبرز قادة «جماعة الجهاد» المصرية، مثل طارق أنور قائد «العمليات الخاصة» ومحمد صلاح عضو مجلس الشورى، كما قُتلت زوجة الدكتور أيمن الظواهري، عزة نوير، وبعض أفراد عائلته، إضافة إلى عشرات من أفراد أسر «الجهاديين العرب» المنسحبين. وفي ظل الفوضى التي كانت تعصف بأوساط المنسحبين اختلف هؤلاء في ما بينهم في شأن من يجب أن يكون أميراً عليهم. سعى بعضهم إلى تعيين «أبي الليث» الليبي أميراً. لكن «القاعدة» أصرّت على أن تمسك هي بالإمارة التي تولاها عبدالهادي العراقي، وهو من قادة «القاعدة» القدامى منذ أيام الجهاد الأفغاني في الثمانينات. وعلى رغم خلافاتهم هذه، نجح الناجون من غارات خوست في الوصول إلى قواعد آمنة في باكستان بعدما ساروا في اتجاه ميران شاه، كبرى مدن إقليم شمال وزيرستان. حصل ذلك في وقت كانت «القاعدة» تخوض معركتها الأخيرة في تورا بورا وتنسحب بدورها عبر طريق آخر في اتجاه باكستان (من ولاية ننغرهار في اتجاه بيشاور).

لم يوافق «أبو الليث» على البقاء في باكستان. طلب إذناً من جماعته، بحسب ما يقول صديقه السابق نعمان بن عثمان، كي يعود إلى أفغانستان للقتال و»قد تمت الموافقة على طلبه». ويكشف بن عثمان، للمرة الأولى، أن «أبا الليث» كان على اتصال به خلال وجوده في باكستان، وأنه هو من أبلغه بما حصل معه في معركة كابول وفي قصف خوست وبقراره العودة للقتال في أفغانستان. كان «أبو الليث» يعرف منذ أيام الجهاد الأفغاني عدداً من قادة المجاهدين، خصوصاً في غارديز (جنوب شرقي أفغانستان) حيث كان لـ «الجماعة المقاتلة» مواقع خاضت فيها معارك عنيفة ضد القوات الشيوعية. ومنذ ذلك الوقت بنى «أبو الليث» صداقات وثيقة مع مجاهدي تلك المنطقة، ولذلك فقد قرر أن يعود إلى تلك الجبال التي يعرفها معرفة جيّدة للالتحاق بـ «الجهاد» مجدداً هناك - هذه المرة ضد الأميركيين.

لم ينجح كثيرون آخرون من «الجهاديين» المنسحبين من أفغانستان في أن يسلكوا طريق «أبي الليث» ويعودوا للقتال في هذا البلد. بعضهم في الحقيقة لم يرد أن يعود، وبعضهم الآخر لم تُتح له فرصة العودة حتى ولو أراد ذلك. فمن هؤلاء من اعتُقل فور وصوله إلى باكستان، كابن الشيخ الليبي (أمير معسكر خلدن، اسمه الحقيقي علي محمد عبدالعزيز الفاخري) الذي سقط في قبضة أجهزة الأمن الباكستانية ضمن عشرات المنسحبين من تورا بورا، وقد سُلّم إلى الأميركيين بعد كشف هويته الحقيقية (سُلّم لاحقاً إلى ليبيا حيث «انتحر» في سجنه، كما أعلنت السلطات الليبية عام 2009). «أبو يحيى الليبي» (حسن قايد)، القيادي في «الجماعة المقاتلة»، اعتُقل في كراتشي ثم سُلّم إلى الأميركيين الذين نقلوه إلى قاعدة باغرام (وربما لو لم ينقله الأميركيون إلى هناك حيث تمكن من الفرار عام 2005 لما كان هذا الرجل قد عاد إلى أفغانستان وبات اليوم واحداً من أبرز منظّري «القاعدة» الشرعيين). «أمير المقاتلة» أبو عبدالله الصادق انسحب بدوره من تورا بورا إلى باكستان لكنه نجح في أن ينتقل من هناك – مع رفيقه المسؤول الشرعي في «المقاتلة» أبي منذر الساعدي – إلى إيران، ومنها لاحقاً إلى دول أخرى (الصين وتايلاند).

أبو مصعب الزرقاوي كان أيضاً واحداً من هؤلاء المنسحبين العرب من أفغانستان. لا يبدو أنه كان مقتنعاً بأن عليه البقاء لـ «الجهاد» هناك بعد الغزو الأميركي. فلو كان مقتنعاً فعلاً بأن القتال في أفغانستان فرض «جهادي» لكان الأولى به بالتالي أن يبقى هناك ويقاتل، مثلما فعلت «القاعدة» التي أعادت - بعد هزيمتها العسكرية - تموقعها في بلاد القبائل الباكستانية وبعض المناطق النائية في ولايات جنوب شرقي أفغانستان. لكن عين الزرقاوي كانت تبحث عن «جهاد» من نوع آخر. فهو ما ذهب إلى أفغانستان وبنى مجموعته الخاصة به هناك في أواخر التسعينات – معسكره الشهير في هرات وقاعدته في لوغر- سوى لأنه يريد القيام بعمل «جهادي» ضد الحكم الأردني. لم يذهب الزرقاوي إلى أفغانستان خلال حكم «طالبان» لأنه يريد أن يدافع عن هذه الحركة كي تبسط نفوذها على بقية البلد في مواجهة خصومها من «تحالف الشمال». لم يكن ذلك هدفه. ولذلك، فإن الزرقاوي سرعان ما انطلق بعد سقوط حكم «طالبان» يبحث عن مكان آمن آخر يبني فيه قواته لتنفيذ ما يطمح إليه في الأردن. وبما أنه كان على ارتباط وثيق بمجموعة من رفاقه الأردنيين والفلسطينيين الذين بنوا معسكراً لهم تحت عباءة تنظيم «أنصار الإسلام» في كردستان العراقية منذ التسعينات، فقد كان طبيعياً أن يلتحق بهم هناك. انتقل الزرقاوي إلى العراق وعينه، على الأرجح، منصبّة على بلده الأم الأردن، وليس لأنه كان يتوقع أن الأميركيين سيغزون في 2003 «بلاد الرافدين» بهدف إطاحة حكم الرئيس صدام حسين.

يقول الليبي بن عثمان الذي كان بحكم اتصالاته الواسعة مع «الجهاديين العرب» في أفغانستان على احتكاك وثيق مع أعضاء في مجموعة الزرقاوي، إن الأخير كانت لديه تحفظات شرعية عن بعض سياسات حركة «طالبان»، إذ كان يراها «متساهلة» في أمور عقائدية مرتبطة مثلاً بمسألة الولاء والبراء. ويوضح: «كانت لأبي مصعب بعض الملاحظات (على «طالبان) إنطلاقاً من قضايا التوحيد والولاء والبراء التي كان يعتبر أنها يجب أن تكون صافية تماماً لا تشوبها شائبة. بقي مع مجموعة تضم قرابة 80 شخصاً في لوغر– وقد تغديت معهم هناك في موقعهم الذي كان بيتاً قديماً لقلب الدين حكمتيار. أكثر من 99 في المئة من عناصر المجموعة كانوا أردنيين أو فلسطينيين. حافظ الزرقاوي على مجموعته الخاصة هذه في أفغانستان وتولى قيادتها. بعد سقوط نظام حركة «طالبان» انتقل إلى إيران ومنها إلى العراق وقطن في أحد أحياء بغداد، ولكن هدفه كان الأردن. لم يكن يعرف أن الأميركيين سيدخلون العراق عندما ذهب إلى هناك. ذهب أولاً إلى كردستان بحثاً عن مكان آمن تحضيراً لإعلان الجهاد في الأردن. هذا ليس تحليلاً بل هو مبني على معلومات مباشرة من مصادرها الأصلية. لقد ذهب معه إلى العراق بعض الناس الذين أعرفهم، وبينهم ليبيون. صمتت على هذه المعلومات والتقارير لفترة طويلة، ولكن اليوم لم يعد لها أهمية أمنية».

ويقول بن عثمان إن «القاعدة» نجحت في بناء أول فرع فعّال لها عندما تمكنت من استقطاب الزرقاوي. ويوضح: «خدم انضمامه القاعدة في شكل كبير، لكنه جاء عليها أيضاً بأمور سلبية. ففي الجانب الإيجابي أعطى الزرقاوي «القاعدة» ما كانت تسعى إليه: وجود قتالي عسكري في شكل يومي ضد المحتلين الأميركيين في منطقة عربية. سلّم الزرقاوي «القاعدة» جماعة جاهزة لم يبنوها هم. كانت لديه «جماعة التوحيد والجهاد» منذ أيام معسكر هرات، وهو سلّمهم هذه الجماعة جاهزة في الفلوجة عندما انضم إلى «القاعدة» عام 2004». ويتابع: «في المقابل، عندما حصل الانضمام إلى القاعدة هم أعطوه إسمهم، وهذا شكّل مصدر راحة لجماعة التوحيد والجهاد التي كانت تتصارع مع تنظيمات أخرى حتى داخل الفلوجة المحاصرة من الأميركيين. فقد كانت جماعة الزرقاوي تتجادل مع جماعات أخرى حول مسائل من قبيل: من قتل من؟ نحن أم أنتم؟ كانوا يتصارعون حول من يمسك بالمعركة في الشارع الفلاني أو الحي الفلاني. عندما انضم الزرقاوي إلى القاعدة خرج من هذه الدوامة، وصار جزءاً من معركة عالمية وليس جزءاً من صراع محلي ضد جماعة منافسة له. الانضمام وفّر له تفوّقاً على غيره من الجماعات المحلية».



«رئة الجهاديين»

قبل أن ينضم الزرقاوي إلى صفوف «القاعدة» كانت خلاياه قد نجحت في التمدد في أكثر من دولة في المشرق العربي، بما في ذلك سورية التي كانت «الرئة» الخارجية الأساسية التي يتنفس منها «الجهاديون» في العراق. فقد فرض تنظيم الزرقاوي منذ نهايات 2003 سيطرته على المعابر التي تسلكها «قوافل» المتطوعين المتدفقين عبر سورية للمشاركة في قتال الأميركيين. ويوضح بن عثمان في هذا الإطار: «كانت للحدود السورية - العراقية خمسة مداخل يسلكها المتطوعون. مهما كانت الجهة التي تُرسلك إلى العراق لا بد لك من أن تمر عبر هذه النقاط الخمس التي يسيطر عليها الزرقاوي. وقد ورثت القاعدة السيطرة على هذه المعابر بعد انضمامه إليها».

لكن «القاعدة» لم تتمكن أبداً من التحكّم في تصرفات الزرقاوي. وقد أظهرت الأيام مدى الصعوبات التي واجهتها «قيادة القاعدة» (التنظيم الأم) في وزيرستان الباكستانية في إقناع الزرقاوي بتعديل سياساته والخضوع لتوجيهات بن لادن وقادة تنظيمه. بعثت له قيادة «القاعدة» في أكثر من مناسبة برسائل تدعوه فيها إلى تعديل سياساته، مثل الذبح أمام الكاميرا والقتل العشوائي البشع الذي لا يفرّق في كثير من الأحيان بين مواطنين مدنيين عاديين وبين قوات الاحتلال. وعلى ما يبدو، لم يقتنع الزرقاوي أيضاً بالدعوات التي حضته على وقف هجماته ضد من يسميهم الشيعة «الروافض»، على رغم أن هذا العمل يكاد يشعل حرباً أهلية بين العراقيين أنفسهم، كما أنه يثير حنق الإيرانيين الذين يمسكون بعدد كبير من «ضيوفهم» من قادة «القاعدة» الذين فروا من أفغانستان في نهاية العام 2001. لكن الشكاوى ضد أمير فرع «القاعدة» في «بلاد الرافدين» بلغت درجة لم يعد يمكن تجاهلها عندما قرر فتح معركة ضد خصومه من العشائر السنّية التي كانت حاضناً أساسياً لـ «فصائل المقاومة» منذ اليوم الأول للغزو في 2003، وأيضاً عندما انخرط في قتال فصائل المقاومة الأخرى الرافضة الخضوع لإمارته وعلى رأسها «الجيش الإسلامي».

أرسلت «القاعدة» آنذاك رسائل عديدة إلى الزرقاوي تدعوه فيها إلى التعقّل. راسله مثلاً الدكتور أيمن الظواهري وأبو يحيي الليبي وعطية عبدالرحمن الليبي (الأخير وقّع الرسالة باسم «قيادة القاعدة في وزيرستان»). وعندما بلغت الأمور حداً لم يعد في الإمكان احتمالها قررت «قيادة القاعدة» أن ترسل عراقياً من أبرز قادتها الميدانيين – عبدالهادي العراقي – في محاولة لتسوية النزاعات قبل استفحالها. لكن عبدالهادي سقط من مكمن نصبه له الأميركيون في بلد شرق أوسطي قبل وصوله إلى العراق.

وفي هذا الإطار، يقول بن عثمان إن قيادة «القاعدة» تلقت شكاوى شديدة اللهجة من بعض مؤيديها في شأن تصرفات الزرقاوي. ويوضح أن بعض هذه الشكاوى مصدره «الجيش الإسلامي» الذي نقل إلى متعاطفين مع «القاعدة» في الخليج تفاصيل عن ممارسات منسوبة إلى الزرقاوي وقادة تنظيمه الميدانيين. ويشرح: «نقل الجيش الإسلامي اعتراضاته على تصرفات الزرقاوي إلى علماء وطلبة علم في دول الخليج، مثل السعودية والكويت. كان هناك في الحقيقة تأييد واسع في أوساط الجهاديين في الكويت لـ «الجهاد» في العراق، بحيث كان يتطوّع كثيرون من الشبان الكويتيين لتنفيذ عمليات تفجير في بلاد الرافدين. وما زاد الطين بلة أن أبا مصعب أصر على نقل المعركة إلى الأردن في عملية تفجير الفنادق في عمّان (تشرين الثاني/نوفمبر 2005) بحجة أنها تحوي مكاتب للمخابرات الأميركية. أوقعت التفجيرات عشرات القتلى المدنيين من المسلمين وأثارت استياء واسعاً في العالم العربي».

لم تمر شهور على عملية الفنادق حتى تمكن الأميركيون، في حزيران (يونيو) 2006 من قتل الزرقاوي نفسه في بعقوبة بعد معلومات ساهم الأردنيون، كما يُزعم، في توفيرها عنه.



انهيار «الجهاد» في العراق

لكن قبل مقتله كان الزرقاوي قد ساهم ببعض تصرفاته في ضرب أي مشروعية لشن «جهاد» ضد الأميركيين في العراق، حتى في أعين كثير من مناصريه. ذلك أن بعض الشبان الذين التحقوا بـ «الجهاد» في العراق وجدوا أنفسهم منخرطين في أحيان كثيرة في عمليات لا تستهدف الأميركيين بل أطياف من أبناء الشعب العراقي، خصوصاً الشيعة و»الجيش الإسلامي». ويقول بن عثمان إن بعض هؤلاء الجهاديين قد نجح في الفرار من العراق بعدما صار يجد نفسه في معمعة قتل عشوائي لا يمكنه أن يجد لها مبرراً وفق فهمه للشرع الإسلامي. ويوضح في هذا الإطار: «هناك شهود يتمتعون بالصحة والعافية والحرية عادوا إلى ليبيا الآن ويعرفون حقيقة ما حصل في العراق. بعضهم هرب من العراق إلى سورية حيث سلّم نفسه إلى السلطات هناك أو اتصل مباشرة بالسفارة الليبية طالباً إعادته إلى بلاده. وقد أفرجت ليبيا عن هؤلاء اليوم وعادوا إلى بيوتهم. بقوا في العراق 3 أو 4 سنوات، لكنهم قرروا ترك الجهاد هناك والعودة إلى ليبيا. يروون قصصاً عن تمردات حصلت خلال تنفيذ العمليات. فقد كان كثيرون من الشبان يعترضون على القتالات الداخلية، خصوصاً بعد دخول القاعدة في حرب ضد الجيش الإسلامي. صارت تحصل عمليات قتل دموية في ما بينهم، وصارت «القاعدة» تأخذ الشبان للقيام بعمليات من دون أن يعرف المشاركون فيها إلى أين يذهبون. وعندما كان بعضهم يسأل إلى أين نحن ذاهبون، يجيبه مسؤول العملية: لا تسأل حتى نصل إلى الميدان. كانوا يتحججون بالسرية، ولكن الحقيقة أن الهدف كان مرتبطاً بغياب عامل الثقة في أن الشباب سيوافقون على القيام بالعملية إذا ما عرفوا الهدف منها. بعض الليبيين وقعوا في مثل هذه المصيبة. أحدهم وجد نفسه يقاتل الجيش الاسلامي. رأى نفسه يقاتل أخوة يصلون ويكبّرون ويقاتلون الأميركيين. عندما كان ينتقد كان يُقال عنه إنك عميل أو خائن».

ومع غرق «جهاد القاعدة» في العراق في مستنقع الصراعات الداخلية مع بقية فصائل المقاومة واستفادة الأميركيين من ذلك لشن حملة واسعة لطرد «القاعدة» من معاقلها وتفكيك خلاياها، بدأ يُسجّل تراجع ملحوظ في اهتمام «قيادة القاعدة» – التنظيم «الأم» - بما يحصل في «بلاد الرافدين». لم يعد منظّرو التنظيم في وزيرستان يتحدثون سوى في النادر عما يحصل في العراق، وغالباً في إطار إصدار رثاء لقادة قُتلوا أو الإشادة بعمل ما نفّذته «دولة العراق الإسلامية» التي حلّت محل «القاعدة» إثر مقتل الزرقاوي آثار تفجير قامت به «القاعدة» في كربلاء. (رويترز).jpgفي 2006.

ولا شك أن قيادة «القاعدة» ستجد نفسها مضطرة – إن لم تكن قد فعلت ذلك بعد – إلى مراجعة وضع فرعها في العراق لمعرفة هل تسرّعت فعلاً في استنتاج أن «الجهاد» هناك بقيادة الزرقاوي قد «خرج من عنق الزجاجة» ولم يعد في الإمكان وقفه. وعلى رغم الانشقاق الأخير في «الجيش الإسلامي» وظهور قيادة في داخل العراق ترفض موقف قيادة الخارج المعادي لـ «القاعدة»، إلا أن الأوضاع حالياً في بلاد الرافدين تدل على أن تنظيم بن لادن قد أخطأ بلا شك في استنتاجاته في خصوص الأوضاع في هذا البلد. ذلك أن «قاعدة بلاد الرافدين» تعاني في شكل جليّ نزفاً كبيراً يُنذر بانهيار كامل إذا ما استمر على هذه الوتيرة من تساقط سريع للخلايا واحدة تلو الأخرى.

Saturday 25 September 2010

الوجه الآخر لـ"القاعدة" (2 من 6)

الوجه الآخر لـ"القاعدة" (2 من 6) ... «معارك العرب» في أفغانستان: «القاعدة» لم ترسل مقاتلين للدفاع عن كابول
الأحد, 26 سبتمبر 2010
لندن - كميل الطويل
لم تمر أيام على الضربة الموجعة التي وجهها أسامة بن لادن إلى الأميركيين في 11 سبتمبر 2001 حتى بدا واضحاً أن ردهم لن يكون، بعكس ما توقعت «القاعدة» خطأ، مجرد صواريخ كروز تنهمر على أفغانستان. الأميركيون - الذين راهن بن لادن على أنهم «جبناء» لن يأتوا للقتال على الأرض في أفغانستان – لن يكتفوا هذه المرة بإطلاق صواريخهم العابرة للقارات من أساطيلهم المنتشرة في البحار البعيدة، بل سيأتون بأنفسهم لقتال «القاعدة» وجهاً لوجه. فتدمير برجي مركز التجارة العالمية وضرب وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) لم يكن صفعة سهلة يُمكن لأي إدارة أميركية أن تغض الطرف عنها وتعتبرها حدثاً عادياً، علماً أنها كانت أول ضربة بهذا الحجم تتعرض لها أراضي الولايات المتحدة منذ الهجوم الياباني المفاجئ على بيرل هاربر في هاواي عام 1941.

في الحقيقة، خططت «القاعدة» تخطيطاً جيّداً استمر سنوات لـ «غزوة الطائرات المخطوفة»، إلا أن ما حصل بعد 11 أيلول (سبتمبر) أظهر عجزاً واضحاً لدى هذا التنظيم في التعاطي مع تبعات أفعاله. لم تتوقع «القاعدة» أن يأتي الأميركيون بقدهم وقديدهم إلى أفغانستان، لكنهم جاؤوا. لم تتوقع «القاعدة» أن تقف باكستان، حليفة حركة «طالبان» والداعم الأساسي لها خارجياً، في صف الأميركيين، لكن إدارة الرئيس برويز مشرف وقادة أجهزة استخباراته القوية كانوا أول الواقفين مع الأميركيين ضد «القاعدة» و«طالبان». والأنكى من ذلك، بدا أيضاً أن «القاعدة» أخطأت في فهم موقف حكومة الملا محمد عمر مما يمكن أن يحصل رداً على الغزو الأميركي. فعلى رغم رفض «طالبان» تسليم بن لادن للمحاكمة خارج أفغانستان، إلا أن «القاعدة» لا بد أنها فوجئت عندما رأت أن «طالبان» بدل أن تخوض المعركة ضد الغزاة «ذابت» بسرعة مخيفة في وجه تقدم القوات الأميركية وقوات تحالف الشمال في تشرين الأول (اكتوبر) 2001. ومع ذوبان «طالبان» وانهيار مقاومتها، بدا أن «الجهاديين العرب» كانوا الوحيدين في أفغانستان الذين فكّروا في التصدي للغزو. كثيرون منهم لم يكن لديهم مكان آخر يذهبون إليه غير أفغانستان. فحتى باكستان، الملجأ الطبيعي للفارين من أفغانستان، لم تكن آنذاك خياراً سهلاً بعدما «كشّرت» أجهزة الاستخبارات عن أنيابها وبدأت تعتقل عناصر «القاعدة» وبقية «الجهاديين العرب» الذين يحاولون تفادي السقوط في «الكماشة» الأميركية التي تُطبق عليهم في أفغانستان. لكن العرب، في واقع الأمر، لم يخوضوا في أفغانستان سوى ثلاث مواجهات أساسية أظهرت، كما يبدو، ضُعفاً رهيباً لدى بعضهم – خصوصاً «القاعدة» - في فهم طبيعة المعركة وكيفية خوضها. كانت المعركة الأولى هي معركة الدفاع عن كابول ولم تشارك فيها «القاعدة» على رغم وعدها بذلك. دارت الثانية في مطار قندهار وقادها «من مكان بعيد» وعبر «جهاز للإتصالات» مسؤول اللجنة العسكرية في «القاعدة» المصري «سيف العدل». أما الثالثة فوقعت في جبال تورا بورا وقادها، بعد انسحاب بن لادن، إبن الشيخ الليبي وأبا ذر البحريني.

بعد أيام من 11 سبتمبر، أيقن قادة «القاعدة» أن رد إدارة جورج بوش لن يكون كرد إدارة بيل كلينتون: بضعة صواريخ كروز على معسكرات مهجورة في أفغانستان. فكّروا سريعاً في «خدعة» تمنع الأميركيين من المجيء، أو وتؤخر ضربتهم، على الأقل، إذا لم يكن في الإمكان وقفها تماماً. لم تكن «القاعدة» قد نجحت بحلول 11 سبتمبر في الحصول على «سلاح الردع» النووي أو الكيماوي أو البيولوجي الذي كان محمد عاطف («أبو حفص الكومندان») يريد تهديد الأميركيين به لمنعهم من تنفيذ أي ضربة محتملة ضد إدارة «طالبان» (راجع الحلقة السابقة). لكن، على رغم ذلك، قررت قيادة «القاعدة» إبلاغ الأميركيين بأنها تملك فعلاً أسلحة دمار شامل وأنها لن تتوانى عن استخدامها إذا ما فكّروا في توجيه ضربة لأفغانستان.

نقلت «القاعدة» رسالتها هذه إلى إعلامي أرسله الإسلامي الليبي نعمان بن عثمان إلى كويتا (بلوشستان، باكستان) بعدما أوصى أصدقاء نافذين في أفغانستان بأن يؤمنوا له لقاء نادراً مع الملا عمر المعروف أصلاً بأنه لا يلتقي في العادة بصحافيين ولا يدلي بمقابلات مع وسائل الإعلام. كان هذا الصحافي ينتظر موعد «خبطته الإعلامية» في كويتا في الفترة التي سبقت بدء الضربة الأميركية لأفغانستان في 7 تشرين الأول (اكتوبر). وعندما عرفت قيادة «القاعدة» بوجوده هناك أرسلت إليه مغربياً من عناصرها ناقلاً إليه «رسالة». «قيادة القاعدة»، كما قال المغربي، «تريد إبلاغ الأميركيين بأنها تملك أسلحة دمار شامل. إننا مستعدون لاستخدامها، وعلى الأميركيين أن يعرفوا ذلك».

حصل الصحافي على فرصة لقاء نادر مع الملا عمر ونشره. لكنه لم يستطع أن يمرر «كذبة» تنظيم «القاعدة» بأنه يملك «أسلحة دمار» - غير موجودة أصلاً – في صحف عربية ذات انتشار دولي، فنشرها في صحيفة عربية «قومية» صادرة في بيروت. 

وليس واضحاً لماذا لم تنطل «خدعة القاعدة» على الأميركيين وهل كان هؤلاء يعرفون فعلاً أن تنظيم بن لادن لا يملك مثل هذه الأسلحة. فقد قررت إدارة الرئيس بوش السير في خطتها التي أُعدّت على عجل، على الأرجح، لغزو أفغانستان، خصوصاً بعد فشل اتصالات سرّية كانت تتم مع بعض قادة «طالبان» في كويتا. طلب ممثلو الأميركيين من «طالبان» في تلك الاتصالات أن يُسلّموا أسامة بن لادن وقادة تنظيمه المشتبه في تورطهم في هجمات 11 سبتمبر للمحاكمة أمام القضاء الأميركي. لكن «طالبان» تمسّكت بعدم استجابة الطلب وجادلت بأن تسليم بن لادن لا يجوز شرعاً (من منطلق عدم جواز تسليم المسلم إلى كافر). كما لفت ممثلو الجانب الأفغاني إلى أن «طالبان» حذّرت الأميركيين مسبقاً من أن «القاعدة» على وشك القيام بعمل ما ضدهم، وبالتالي فإنها لا يجب أن تتحمل مسؤولية فشل الأميركيين في حماية أنفسهم، على رغم أن التحذير المزعوم لم يحدد موعد الضربة ولا أهدافها.

كابول

كانت جموع العرب قد بدأت بالإنسحاب من كابول في الأسبوع الذي سبق هجمات 11 سبتمبر، بناء على تحذير من «القاعدة» بأن عليهم توقّع رد أميركي على عمل ستقوم به. غادر كثيرون العاصمة الأفغانية، لكن بعضهم أصر على البقاء فيها لمشاركة «طالبان» في الدفاع عن عاصمتهم.

كان «أبو الليث الليبي»، القيادي البارز في «الجماعة المقاتلة» الليبية، واحداً من هؤلاء. بقي معه المسؤول الشرعي في «المقاتلة» سامي الساعدي (أبو المنذر). جمع «أبو الليث»، وهو مقاتل محنّك، عدداً من المقاتلين وقرر أن أفضل خط للدفاع عن العاصمة الأفغانية يجب أن يكون عند «جبهة شمالي»، الموقع السابق الذي كان لسنوات طويلة الخط الفاصل بين قوات «طالبان» وقوات تحالف الشمال بقيادة الزعيم الراحل أحمد شاه مسعود (أسد بانشجير) الذي اغتالته «القاعدة» قبل يومين فقط من 11 سبتمبر. اتصل «أبو الليث» بقيادة «القاعدة» وشرح لها أهمية الدفاع عن «جبهة شمالي» وضرورة عدم السماح بسقوط كابول، كونها عاصمة الإمارة وكون إدارات الحكومة كلها موجودة فيها. وافقت «القاعدة» في البداية على إرسال 200 مقاتل للدفاع عن كابول، على ما يقول نعمان بن عثمان. لكن بعد انتظار طال أياماً لم يصل هؤلاء المقاتلون، فاتصل «أبو الليث» لمعرفة سبب التأخير، فأبلغته قيادة «القاعدة» بأنه لا يمكنها تأمين هذا العدد – إذ كان معظم المقاتلين الأشداء يتوجهون آنذاك إلى تورا بورا للإلتحاق بأسامة بن لادن الذي سبقهم إلى هناك للإعداد للمعركة. لكن «القاعدة»، على رغم ذلك، وعدت «أبو الليث» بإرسال نحو 50 مقاتلاً. انتظر القيادي الليبي مجدداً وصول هؤلاء لتوزيعهم على الجبهة، لكنهم لم يصلوا. أجرى مزيداً من الاتصالات وتلقى مزيداً من الوعود. في نهاية المطاف لم تُرسل «القاعدة» أي مقاتل للدفاع عن كابول التي سقطت في 12 تشرين الثاني (نوفمبر) مثل غيرها من المدن الأفغانية التي كانت تتساقط كأوراق الخريف في يد قوات تحالف الشمال وطلائع القوات الأميركية.

«حصل نوع من الغدر في معركة كابول»، كما يقول بن عثمان الذي كان على اتصال مباشر مع «أبي الليث» بعد سقوط العاصمة الأفغانية وانسحابه إلى باكستان. ويوضح: «كان من الممكن فعلاً الدفاع عن كابول. فقد طلب أبو الليث من أسامة بن لادن أن يرسل مقاتلين للدفاع عن جبهة كابول. كانت وجهة نظره أنه يجب منع قوات تحالف الشمال من دخول كابول، لأنها إذا صمدت ستبقى الإمارة». ويضيف: «كان أبو الليث يقود المعركة هناك، وصمد فيها. كان معه أبو المنذر الذي بقي للقتال ومعه أشخاص معروفون. طلب أبو الليث قوة بشرية من بن لادن الذي وافق على إرسالها. فقد كان يحتاج إلى قوة بشرية لأنه يعرف أن الأفغان (أي مقاتلي طالبان) يمكن أن ينهزموا. هم مقاتلون أشداء ولكن الأسهل للأفغاني أن ينسحب عندما تدب الفوضى فهو يعرف أن في إمكانه أن يعود غداً. لكن الأخوة العرب الذين كانوا هناك بقيادة أبي الليث وأطراف أخرى لم يكونوا موافقين على هذه الفكرة. كانوا يقولون إن بإمكاننا الصمود والحفاظ على جبهة كابول وإذا صمدنا فسيتم ردع العدو ومنعه من أن يسيطر على أفغانستان كلها. كانوا فعلاً مؤمنين بأنه يمكن هزيمة الطرف الآخر. قالوا له (لبن لادن): عززنا بأعداد كبيرة من العرب. كانوا يعتقدون أننا لو تمكنا من القتال والصمود - بحسب ما اثبتوا من قدرات أيام الجهاد ضد السوفيات - فإن ذلك سيدفع الأفغان أنفسهم إلى الاستمرار في القتال والصمود. اتصلوا بالقاعدة وبن لادن، وكان طلبهم الأول، كما أذكر، 200 مقاتل للتصدي لأي هجوم يحصل على جبهة شمالي. انتظروا طويلاً وصول هؤلاء المقاتلين، لكنهم لم يصلوا. عاودوا الاتصال بهم فقيل لهم إن ليس لدينا هذه الإمكانية، إذ كانت القاعدة توزّع مقاتليها استعداداً لخوض معركتي قندهار وتورا بورا. لكن القاعدة وعدت بأن ترسل 50 مقاتلاً فقط للدفاع عن كابول. في كل مرة كان هذا العدد ينزل. انتهت القصة بأنهم لم يرسلوا أحداً».

ويقول بن عثمان إن «ابا الليث وأبا المنذر لم ينسحبا من كابول حتى سقوطها. خسرت الجماعة المقاتلة في الدفاع عن كابول أربعة من مقاتليها كانوا قد توغّلوا في صفوف تحالف الشمال. أحد هؤلاء كان أخاً من طرابلس يدعى أسد الله وكان على اتصال بأجهزة الاتصالات مع أبي الليث. أبلغه في المكالمة الأخيرة بينهما أن العدو قد أحاط بهم وأنهم يرفضون الاستسلام. قاتلوا حتى قُتلوا. عبارته الأخيرة مع أبي الليث كانت إن لقاءنا في الجنة بإذن الله».

استغرب كثيرون من العرب آنذاك كيف أن «طالبان» لم تلجأ إلى الدفاع عن عاصمتها ومدنها الكبرى. لكن واقع الأمر أن الحركة كانت تعرف أن مقاتليها ليسوا غرباء عن مدنهم، وأنهم بمجرد القائهم السلاح سيصيرون كأي مواطن أفغاني عادي، وسيكون في وسعهم لاحقاً إعادة تنظيم أنفسهم بعد هدوء العاصفة لبدء حرب عصابات بهدف طرد نصف أميركي خلال غزو أفغانستان (أ ف ب).jpgالقوات الأجنبية المحتلة. ولعل هذا ما يفسّر إلى حد كبير لماذا لم تقاتل «طالبان» بشراسة للدفاع عن مدنها، وهو أمر لم يفهمه كثيرون من العرب آنذاك لكنه صار واضحاً اليوم بعدما تمكنت الحركة مجدداً من إعادة لم شملها وبسط نفوذها على أجزاء واسعة من جنوب البلاد في شكل خاص.

معركة مطار قندهار

مع سقوط كابول في 12 تشرين الثاني (نوفمبر)، انتقل الإهتمام إلى الوضع في ولايات الجنوب البشتوني، وتحديداً قندهار العاصمة الروحية لـ «طالبان». كانت «القاعدة» قد فقدت في قندهار في الأيام الأولى لبدء الهجوم الأميركي قائدها العسكري «أبا حفص المصري» (الكومندان) الذي قُتل مع قرابة 17 شخصاً آخرين بغارة أميركية على «مضافة اليرموك» – التي كانت ما زالت موقعاً سرياً دُشّن قبل شهرين تقريباً من 11 سبتمبر - خلال انتظاره هناك الحصول على نسخة من شريط مصوّر مضغوط (دي في دي) طلبه من عاملين في المضافة. وهنا أيضاً وعلى رغم الاستعدادات الواسعة لخوض واحدة من أشرس المعارك دفاعاً عن المعقل الأخير للإدارة الطالبانية، وافق الملا عمر في نهاية المطاف على إخلاء المدينة بلا قتال في 7 كانون الأول (ديسمبر). في ذلك اليوم، انتهى رسمياً حكم «طالبان» لأفغانستان. استقل الملا عمر، كما قيل، دراجة نارية وفر شمالاً في اتجاه أورزغان، قبل أن يجد طريقه لاحقاً إلى باكستان حيث أعاد تأسيس «طالبان» في المنفى بقيادة مجلس جديد للشورى يُعرف باسم «شورى كويتا»، نسبة إلى هذه المدينة الباكستانية التي يُزعم أن «طالبان» تتخذها قاعدة لها.

ولكن في وقت كانت «طالبان» تستعد لإلقاء السلاح في قندهار كانت «القاعدة» تخوض معركة على بُعد أميال من المدينة من دون أن يكون واضحاً الهدف الذي كانت تسعى إلى تحقيقه من قتال خصم يتفوّق عليها عدة وعدداً. فقد قررت «القاعدة» آنذاك أن تتصدى للأميركيين في مجمّع مطار قندهار الذي يقع في منطقة صحراوية تبعد نحو 10 أميال خارج المدينة. لكن الغريب أن معظم الذين تُركوا لخوض المعركة في نهاية المطاف لم يكونوا أفراداً في «القاعدة» بل مجرد متطوعين التحقوا بأفغانستان للتدرب على الجهاد. كما أن إدارة المعركة لم تتم سوى «من مكان بعيد» إذ تولاها «سيف العدل» الذي كان يُصدر توجيهاته من خلال «جهاز للإتصالات»، على ما يقول نعمان بن عثمان الذي يؤكد أنه على اتصال مع أشخاص نجوا من تلك المعركة ونقلوا إليه وقائعها.

قبل سنوات أتيحت لي فرصة زيارة الموقع الذي تحصّن فيه العرب في مجمع مطار قندهار. أخذني ضابط كبير في قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في جولة عبر المطار الذي كان قد تحوّل إلى مجموعة مخيّمات ضخمة تعج بآلاف الجنود من دول عديدة مشاركة في الحرب ضد «القاعدة» و«طالبان». توقف الضابط فجأة عند مبنى إسمنتي محصّن في داخل مجمع المطار وقال بنوع من الاستغراب: «هنا كان العرب يتحصنون ... وهنا قُتلوا». كان يشير إلى أسفل مبنى يغطيه الغبار وبدت آثار القصف واضحة عليه كان العرب قد تحصّنوا فيه – وفي مواقع أخرى في المطار - ينتظرون قدوم «الغزاة» الأميركيين. لكن عندما جاء هؤلاء لم يكن في إمكان عدد محدود من المقاتلين أن يصدوهم. فقد دمّرت الطائرات الأميركية تحصينات العرب حتى قبل أن يتمكنوا من مغادرتها وقتلت العشرات منهم.

يقول بن عثمان عن معركة المطار: «هناك أمر غامض في تلك المعركة التي راح ضحيتها عدد كبير من العرب. أصرت القاعدة على حماية مجمع مطار قندهار، ولكن ما هي أهمية ذلك الموقع؟ كانت عملية تنم عن غباء عسكري على رغم أن قائدها لديه خلفية عسكرية (سيف العدل ضابط سابق في القوات المسلحة المصرية)». ويوضح: «لا يمكن لمقاتل حرب عصابات أن يواجه قوات مسلحة نظامية بهذه الطريقة. كيف يمكن لعدد محدود من المقاتلين أن يدافعوا عن المطار وهم لا يملكون سوى رشاشات وقذائف «آر بي جي»؟ لوقف الهجوم الأميركي كانوا في حاجة إلى قوة نارية كبيرة وسلاح قادر على تحييد سلاح الجو. والغريب في الأمر أن «سيف العدل» كان يقود المعركة من خلال جهاز اتصالات من منطقة بعيدة جداً (عن المطار). كان الأخوة يريدون الانسحاب، لكنه أصر على البقاء. أعرف أشخاصاً شاركوا في المعركة وقد تكلمت معهم عما حصل. إنني أوجّه لهم رسالة أن يتكلموا علناً عن حقيقة ما حصل في تلك المعركة. أعرف أنهم يحمّلون سيف العدل المسؤولية عن مقتل عناصر القاعدة وبقية العرب هناك. أرجو أن يتمكن سيف العدل من أن يدافع عن نفسه. هناك أخ تونسي أصيب برصاصتين في معركة المطار لكنه تمكّن من الوصول إلى المدينة (قندهار) على رغم بعد المسافة. وصل إليها ثم خرج منها ولديه تفاصيل عما حصل. ولذلك أرجو أن يتمكن سيف العدل من أن يدافع عن نفسه ويشرح كيف حصلت عملية سحب المقاتلين من المطار فعلاً. فقد كان يتصل، بحسب ما يقول الأخ التونسي، ويقول إن فلاناً مطلوب سحبه من المطار. ثم يتصل مرة ثانية ويطلب سحب أخ آخر. الأسماء كلها التي سحبوها أو التي خرجت من المطار كانت من تنظيم القاعدة. أما الأفراد الذين بقوا هناك فلم تكن لدى معظمهم خبرة عسكرية أصلاً ولم يكونوا يعرفون حتى ماذا سيفعلون في حال انسحبوا أو إلى أين سيذهبون. وضعوهم هناك وتركوهم. قُتل عدد كبير جداً من العرب في تلك المعركة. وهم (الناجون) يقولون إن ما حصل يتحمل مسؤوليته تنظيم القاعدة وتحديداً «سيف العدل» الذي كان يقود المعركة من خلال جهاز. «القاعدة» تطالب الآخرين بالشفافية والمحاسبة ولا تطبق ذلك على نفسها. لقد فشلت «القاعدة» وأثبتت أنها غير قادرة ولذلك يجب أن تُحاسب. إنني أدعو المجاهدين الذين لا يخشون في الله لومة لائم، كما يقولون، وهم أحرار طلقاء وبإمكانهم أن يدلوا بشهاداتهم حول هذه المسألة، أن يتقدموا ويفعلوا الشيء الذي يطالبون الحكومات بأن تقوم به وهو الشفافية والمحاسبة والمسؤولية، اللهم إلا إذا كانت هناك امتيازات أنزلها الله تعالى ونحن لا نعلمها وخص بها المولى عزّ وجل الإسلاميين دون غيرهم من المسلمين». ويكشف بن عثمان أن عدداً من الشهود على معركة مطار قندهار فروا إلى إيران حيث وضعوا في معسكرات خاصة يشرف عليها الحرس الثوري، وأن جدلاً شديداً نشب بينهم في شأن من يتحمّل مسؤولية المعركة. ويزعم أنه على اتصال مع بعض هؤلاء الذين خرجوا من إيران الآن. 

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن نشر هذه الرواية عن تفاصيل معركة مطار قندهار تستند إلى رواية بن عثمان، وهو من منتقدي لـ «القاعدة» وبالتالي فإنه روايته قد تكون منحازة ضدها. لكن، في المقابل، لم تُصدر «القاعدة»، من جهتها، شرحاً لما حصل في تلك المعركة من وجهة نظرها كي يمكن اللجوء إليها. كما أن سيف العدل كان من ضمن عناصر التنظيم الذين انتقلوا إلى إيران بعد هجمات 11 سبتمبر، ويُزعم أنه وُضع هناك في مركز اعتقال أو في إطار نوع من الإقامة الجبرية الأمر الذي لا يسمح له بأن يدافع عن نفسه ويقدّم روايته لما حصل في تلك المعركة.

معركة تورا بورا

كان أسامة بن لادن قد انتقل إلى تورا بورا في سلسلة جبال سبين غار (الجبل الأبيض) على حدود ولاية ننغرهار الأفغانية مع باكستان منذ الأيام الأولى التي تلت «غزوة نيويورك وواشنطن». لم ينتظر سقوط كابول وقندهار وانهيار حكم «طالبان». كان يعرف أن الأميركيين يريدون رأسه كونه المسؤول الأول عن ذلك الهجوم. فانتقل مباشرة إلى تورا بورا، وهي منطقة جبلية تعرفها «القاعدة» جيّداً منذ أيام الجهاد الأفغاني. وقبل انتقاله إلى هناك، استقبل بن لادن في قندهار عدداً من «الجهاديين العرب» بينهم بعض المنتقدين السابقين لسياساته. وقد أعلن بعضهم أنهم «يبايعون أسامة بن لادن على القتال»، كما قال أحد الجهاديين المشارقة المعروفين والذي كان على خلاف شديد مع بن لادن. غير أن آخرين وبينهم قادة في «القاعدة» نفسها، مثل «أبي حفص الموريتاني» مسؤول اللجنة الشرعية و«أبي محمد الزيات» مسؤول اللجنة الأمنية، لم يكونوا راضين عما قام به أميرهم، خصوصاً لمخالفته المزعومة لتعليمات الملا عمر الذي كان بن لادن قد بايعه على السمع والطاعة.

وليس واضحاً، في الحقيقة، هل توقّع بن لادن فعلاً عندما انتقل إلى تورا بورا أن يرى «الجبناء» الأميركيين يلحقون به إلى هناك. لم يكن الأميركيون وحدهم من أرسل قوات النخبة لملاحقة «القاعدة» في تلك الجبال الوعرة المسالك والتي تغطيها الثلوج الكثيفة لفترات طويلة خلال فصل الشتاء. فالبريطانيون بدورهم أرسلوا قوات الكوماندوس (أس أي أس) التي خاضت قتالاً وجهاً لوجه مع مقاتلي بن لادن. لكن المعركة الحقيقية، في الواقع، تمت على أيدي الأفغان أنفسهم من أبناء المنطقة. فقد استعان الأميركيون بخدمات حضرت علي، في حين استعان البريطانيون بحاجي زمان. كان كلاهما من قادة المجاهدين البشتون في جنوب شرقي أفغانستان ويعرف المنطقة عن ظهر قلب.

لم يكن لدى بن لادن ومقاتليه خيارات عديدة ينتقون منها ما يلائمهم. كانوا يريدون خوض المعركة، لكن موازينها لم تكن في مصلحتهم. فالطائرات كانت تصطادهم كلّما تحرّكوا خارج مواقعهم، وقوات النخبة الأميركية والبريطانية كانت تتقدم في اتجاههم، ومعها مئات المقاتلين الأفغان من مناصري حضرت علي وحاجي زمان. والأنكى من كل ذلك أن الثلوج كانت بدورها تهدد بمحاصرة الناجين من الضربات الأميركية في قمم تورا بورا.

كان أمير «الجماعة المقاتلة» الليبية أبو عبدالله الصادق واحداً من العرب الذين سلكوا طريق تورا بورا في اتجاه باكستان خلال وجود بن لادن هناك. لكن الليبي رفض أن يقاتل إلى جانب زعيم «القاعدة»، بحسب ما يؤكد نعمان بن عثمان. لم يرفض الصادق القتال جُبناً. فهو مقاتل سابق في أفغانستان، وسبق له أن أصيب بشظايا صاروخ «آر بي جي» خلال معارك لوغر في أواخر أيام الجهاد. لكنه رفض هذه المرة أن يقاتل إلى جانب بن لادن. يقول بن عثمان شارحاً ما حصل لـ «أمير» جماعته: «كان الأخ أبو عبدالله الصادق ومعه مجموعة من عناصر «المقاتلة» في تورا بورا، لكنه رفض أن يقاتل وقال لبن لادن: إنسحب من هنا. رفض أن يبقى في الميدان وقال إنني لا أستطيع أن أتحمّل مسؤولية مقتل الناس الذين معي. أخذ عناصر المجموعة الذين كانوا معه وانتقل بهم إلى باكستان». ويضيف: «كان الصادق خلال تقدمه نحو تورا بورا يمر بقرى أفغانية ويرى أبناءها يضحكون على العرب. كانوا يقولون إن العرب مجانين لن يتمكنوا من البقاء هناك لأكثر من أسبوع». كانوا يقصدون، على ما يبدو، ليس فقط أن احتفالات بسقوط كابول في يد قوات تحالف الشمال (رويترز).jpgالأميركيين وحلفاءهم سيصعدون إليهم خلال أيام، بل أيضاً أن الثلج المتساقط سيجعل المنطقة معزولة بالكامل عن العالم الخارجي وسيقضي على عناصر «القاعدة» هناك إذا لم يكونوا قد استعدوا استعداداً جيداً لمجيء فصل الشتاء القارس. ويوضح بن عثمان أن الصادق قابل في تورا بورا أبا ذر البحريني وابن الشيخ الليبي، وهما الشخصان اللذان كلّفهما زعيم «القاعدة» بقيادة المعركة بعد انسحابه. ويضيف: «كان واضحاً من كلام الرجلين أنه لم تكن لديهما خطة واضحة (للتصدي للأميركيين). إبن الشيخ الليبي انتهى به الأمر في باكستان حيث اعتقل هناك. بن لادن نفسه إضطر إلى الفرار من تورا بورا لأنه شعر بأنه سيُهزم. فوجئ بلا شك بدخول حاجي زمان وحضرت علي المعركة، كما فوجئ بأن مقاتليه يتواجهون وجهاً لوجه مع الجنود الأميركيين ... الجبناء».